العدد 5078 - الإثنين 01 أغسطس 2016م الموافق 27 شوال 1437هـ

رأس كل خطيئةٍ وشر

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

حين تقرأ روايةً مثل «مذكرات عبد أميركي»، أو «شرق المتوسط»، أو «الغريبة»، لابد أن تسأل نفسك: لماذا كل هذه الوحشية التي يتكشف عنها بعض البشر؟ ولماذا كل هذا الاستخفاف والتلذذ بعذابات الإنسان؟

في مثل هذه الأعمال الأدبية، تبقى منها مشاهدُ معينةٌ لا تفارق الخيال، وفي الكتاب الأول، للأميركي فريدريك دوغلاس، تبقى مشاهد تعذيب الزنوج التي تظهر مدى الوحشية التي يبلغها بنو آدم حين يموت لديهم الضمير. ويصف الكاتب أحدهم بقوله: «كان مستر بلامر سكِّيراً بائساً، فاحشاً مبتذلاً، ووحشاً متوحشاً. يظهر دائماً مسلحاً بسوط وهراوة ثقيلة». ويصف سيده بقوله: «كثيراً ما يبدو مستمتعاً للغاية بجلدِهِم، وحتى الآن غالباً ما أستيقظ عند الفجر بسبب اضطراب قلبي جراء ما كان يفعله بخالتي، التي كان يربطها إلى عارضةٍ في السقف ويجلدها على ظهرها حتى يتطاير فيغطيها الدم. ولم تكن هناك كلماتٌ ولا دموعٌ ولا صلواتٌ من ضحيته تحرّك قلبه الحديدي».

بل إن الكاتب دوغلاس نفسه تعرّض مراراً للتعذيب، ويوثّق إحدى هذه المرات: «اندفع نحوي بشراسة ومزّق ثيابي وجلدني حتى تمزّقت فروع الشجرة (كان يضربه بها)، وتمزّق قبلها لحمي بوحشيةٍ ظلت آثارها ظاهرةً لفترة طويلة». وكان سبب هذه الزوبعة لأمرٍ لم يكن له يدٌ فيه، وهو انقلاب عربةٍ يجرها ثوران هائجان. وسيبقى في الذاكرة تصويره المؤثر للجروح العميقة التي خلّفها الجَلْد، حيث أصبحت تتسع لدخول القلم الذي يكتب به روايته!

في تقييمه للمجتمع الأميركي في تلك الفترة، منتصف القرن التاسع عشر، يقول: «كل مالكي العبيد أهل سوء. نادراً ما قابلنا واحداً يحمل صفةً تستحق الاحترام». فالمجتمع الذي يتربى على العنصرية، يستحل كل الحرمات، ويسحق في طريقه كل الأعراف والأخلاق، ويسير متخبطاً كالأعمى. وهكذا ينحدر المجتمع العنصري إلى القاع، حتى تتحوّل ممارساته الخاطئة إلى أمثالٍ تجري حتى على ألسنة الصغار: «قتل زنجي يساوي نصف سنت، ونصف سنت لدفنه». هكذا تكون قيمة الإنسان في ظل هذه الثقافة المريضة.

حتى الدين المسيحي، القائم على المحبة، يتحوّل إلى سيفٍ بيد الجناة، فيقول: «أؤكد بثقة كبيرة أن ديانة الجنوب هي مجرد غطاء لأكثر الجرائم رعباً، وهي مبرِّرٌ للبربرية، ومسوِّغٌ لأكثر الحِيَلِ كراهيةً، وغطاءٌ مظلمٌ يحمي أكثر أفعال ملاك العبيد حماقةً ووحشيةً ودماراً». ويشير إلى أن أسوأ ملاك العبيد الذين قابلهم، كان المتدينون أسوأهم على الإطلاق، «لقد وجدتهم الأسوأ والأخبث والأجبن والأخس». وتسأل: من أجل ماذا كل هذا الظلم والاضطهاد والعذابات؟ من أجل المال والامتيازات.

يذكر دوغلاس أمثلةً، فأحد القساوسة بالكنيسة الميثودية للإصلاح، كان يملك امرأةً «ظل ظهرها ينزف أسبوعاً جراء سوط هذا المتدين التعس الذي لا يرحم». وقسيسٌ آخر كانت مفخرته الكبرى جلد العبيد دون وجه حق، مع أنه يؤدي كل شعائر الدين وعيد المحبة والصلاة مبكراً. وهي ظاهرةٌ نجدها في مجتمعاتنا الإسلامية أيضاً، حيث نجد الفرد معتدلاً، فإذا «تديّن» تحوّل إلى شخص متطرف بذيء اللسان، ممتليء القلب بالحقد والكراهية، يهشّ لأخبار الفتنة ويطرب لمناظر القتل والدماء.

هذا النفاق وانفصام الشخصية وخيبة الأمل برجال اللاهوت، دفع دوغلاس لكتابة أربع صفحات بعنوان «ملحق»، ليوضّح موقفه الرافض لـ «ديانة الاستعباد»، وليس لديانة «المسيح المتواضع الحليم». فالرجل «الذي باع أختي لاستغلالها في الدعارة يقف يوم الأحد مدافعاً عن الطهر، والرجل الذي اعتبر قراءة الإنجيل واجباً مقدساً، أنكر عليّ حقي بتعلم قراءة اسم الله الذي خلقني». وكان يندهش لتوهّم البعض أن غناء الزنوج علامةٌ على رضاهم وسعادتهم، «فالعبيد يغنّون غالباً حين يكونون أكثر تعاسةً، وأغاني العبد تمثل أحزان قلبه، وهو يخفّف عن نفسه بالدموع».

من كلمات هذا المصلح المناهض للعبودية، والذي عاش عشرين عاماً يرزح تحت أغلالها، «إن سعادة الرجل الأبيض لا يمكن شراؤها على حساب بؤس وشقاء السود»، وإن «قمع حرية التعبير خطأ مضاعف، فهو ينتهك حقوق كلٍّ من المستمع والمتكلم». أما المعرفة (أو التعليم)، فتجعل الإنسان «مخلوقاً لا يقبل الاستعباد».

لقد رفعت أغلال العبودية عن كاهل الشعب الأميركي، بحكم القانون، حتى استطاع رجل أسود من الوصول إلى منصب الرئيس، لكن بقيت آثار هذه الجريمة البشعة في نفوس البيض والسود، وهو ما نراه ينفجر في أحداث العنف والقتل بين فينة وأخرى، ليذكّر العالم ببشاعة هذه الجريمة النكراء، وأن العنصرية والتمييز والطائفية والجشع والاستعلاء على الآخرين، رأس كل خطيئة وشر.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 5078 - الإثنين 01 أغسطس 2016م الموافق 27 شوال 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 10 | 4:50 ص

      من الغريب إن يكون الإنسان متدين وهو يتصف بالقسوة ويفرح لمآسي إخوانه من بني البشر مهما كان لونه وبغض النظر عن دينه !!!إنه للأسف واقع نعيشه في وطننا

    • زائر 9 | 4:41 ص

      ( من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) . ومن يزرع يحصد .

    • زائر 8 | 4:28 ص

      كلام

      كلام منطقي وينطبق ع واقعنا المرير ف بلدنا الحبيب البحرين من انتهاكات صارخة وعذابات سوف يندم عليها القائمون بها والله المستعان.

    • زائر 7 | 4:14 ص

      التدين المبالغ فيه آفة هذا الزمن و ربما كل الازمان يجعل الانسان يعتقد انه نبي مرسل

    • زائر 4 | 1:43 ص

      كلام جميل يا سيد

    • زائر 2 | 10:02 م

      اﻹيمان بالله تعالى

      لو كان في قلوب هؤلاء المعذبين مثقال ذرة من اﻹيمان بالله لتحرك ضميرهم وخفق قلبهم بالرحمه على بني جلدتهم ولاكنهم خلا قلبهم من اﻹيمان بالله فانسلخو من إنسانيتهم وصارو اشد شراسة من الوحوش

    • زائر 1 | 9:57 م

      احسنت استاد قاسم. وكأنك تتكلم عن واقعنا الحالى وخصوصا فى بلدنا البحرين فبارك الله فيك وفى قلمك النير..

اقرأ ايضاً