العدد 5100 - الثلثاء 23 أغسطس 2016م الموافق 20 ذي القعدة 1437هـ

التعامل مع تعددية الأديان والمذاهب والرؤى الفكرية خارج أطر الأديان والمذاهب (1 - 3)

صادق جواد سليمان

مفكر عماني

«ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين» (النحل: 125).

«ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم» (فصلت: 34)

تكاثرُ المشاكل الإنسانية وتزايدُها طردا في التشعب والتعقيد يحفزنا جميعا لبلورة فهم أدق لطبيعة المشاكل التي نواجهها، أكان على الصعيد الوطني أم الإقليمي أم العالمي. ينطبق هذا بالأخص على تلك المشاكل التي تكمن وراءها خلفيات قديمة لايزال اجترار الاختلافات الموروثة منها تستثير خصاما سياسيا - اجتماعيا في حراك هذا العصر. أملي أن تساعد حوارات بناءة هادفة كحوارنا هنا اليوم في تكوين فهم معرفي أدق وأفسح لتلك الاختلافات: فهم ينمي فينا السعة لتفهم أكثر موضوعية للتنوع والتعدد الديني والمذهبي والفكري، في أوطاننا، إقليميا وعبر العالم، ومن ثم يمكّننا من التعايش مع التنوع والتعدد، وحتى التعارض، بوئام وطيد لا يصدر معه من أي دين أو مذهب أو منظور فكري، مسلك تعصبي إزاء دين أو مذهب أو منظور فكري مغاير.

شاعر إنجليزي في القرن السابع عشر (جون دون) لاحظ أن لا شخص منفصل بذاته عن مجتمعه، كانفصال جزيرة وسط بحر.

اليوم، إذ نحن نعايش العولمة في جل المعطيات المعاصرة، نلاحظ أن هذا ينطبق أيضا على وضع كل مجتمع معاصر نسبة إلى المجتمع الأممي. نلاحظ وضوحا أن لا مشكلة محلية تبقى طويلا معزولة عن الشأن العالمي. أي اضطراب أو عثار في الحال الإنساني، أينما يحدث في قريتنا العالمية، أكان جراء صراع سياسي، أم نزاعاً دينيّاً، أم خصاماً مذهبيّاً، أم هتكاً لحقوق الإنسان، أم تلويثاً للبيئة، أم جحوداً لحقوق المواطنة من قبل أنظمة حكم متعسفة، أم سوى ذلك... إذا ما تفاقم سرعان ما يسري أثره مدار الأرض. خلاصةً، إذن، ما من شأن داخلي إلا إذا تعاظم، إيجابا أو سلبا، غدا شأنا خارجيا بامتياز. والعكس صحيح.

بإدراك تكاثف هذا التشابك في الحال الإنساني تبرز الحاجة أكثر إلحاحا من أي وقت سبق لأمم الأرض إلى أن تتواءم وتتعاون في إطار اعتماد متبادل لا غنى عنه لأيما دولة معاصرة. بمثل ذلك، تبرز الحاجة إلى أن يتعامل المواطنون في أيما دولة ما بينهم بوئام وتعاون في إطار مواطنة متساوية، قائمة على أساس تكافؤ الحقوق من جهة، وتناسب الاستحقاقات والواجبات من الجهة الأخرى. كذا إقليميا تبرز الحاجة إلى أن تتواءم وتتعاون الدول في إطار التكافؤ السيادي وحسن الجوار. كذا عالميا تبرز الحاجة إلى أن تتواءم وتتعاون جميع المجتمعات الوطنية في إطار صداقة وتبادل مصالح. كل ذلك بصرف النظر عما يوجد بين الشعوب، ومرارا ما بين الشعب الواحد، من تنوع الانتماء، فكرا ودينا ومذهبا وعرقا وسوى ذلك. خلاصةً، إذن، تعددية الأديان والمذاهب والرؤى الفكرية والأعراق في أيما مجتمع معاصر لا تضر ولا تضير إذا هي انتظمت تحت وحدة الجامع الإنساني عالميا، وانضبطت تحت وحدة المواطنة المتساوية بين المواطنين، ذكوراً وإناثاً، في كل مجتمع.

إزاء هذا التشابك في الواقع الإنساني في عصرنا، عالميا، إقليميا، ووطنيا، الاهتمام ببحث التنوع الديني والمذهبي، وأيضا التنوع الفكري خارج أطر الأديان ومذاهبها، بحثا معرفيا وعقلانيا، خلاف ما يجري مرارا من تراشق انفعالي بين المتطرفين من كل دين أو مذهب أو منظور فكري، أمر ضروري. هو ضروري لأجل نبذ التعصب مطلقاً، ومن ثم اتقاء ما قد يفجر التعصب المتبادل من صراعات عنفية. هو ضروري أيضا لأجل تمكيننا من بناء حياة كريمة آمنة، موفورة العطاء المنمي لأحوال الجميع. خلاصةً، إذن، مع أن الغيرة على الدين أمر حميد، إلا أن التعصب من قبل أيما دين ضد دين آخر ليس كذلك. كذا الغيرة على مذهب أو منظور فكري، إذا خامرها تعصب ضد مذهب أو منظور فكري آخر سرعان ما تتشوه وتؤدي إلى عواقب تغب وتحمق.

في ضوء ما تقدم دعنا نتدارس الإطار الإسلامي والتعدد المذهبي ضمنه، تحديداً. لأجل ذلك، دعنا ابتداء نرسم للإسلام رسما أساسيا كدين جامع، دعوته موجهة للناس كافة، ورسوله مبعوث رحمة للعالمين: دعوةٌ قائمةٌ على منهاج الإقناع لا الإكراه، ومنضبطة بندب القرآن المجيد المسلمين كافة إلى أن يدعوا بالحكمة والموعظة الحسنة، ويدفعوا ويجادلوا بالتي هي أحسن.

كجميع الأديان الكبرى التي لها أطر وسيعة، الإسلام يتكون من أربعة محاور: العقائد، الشعائر، الأحكام، الأخلاق.

على صعيد العقائد، يتمحور الإسلام في ثلاثة أصول: التوحيد، النبوة، المعاد. مؤدى هذه الأصول هو 1- الإيمان بالله واحداً أحداً، فرداً، صمداً، ليس كمثله شيء. 2 - الإيمان بأن الله مصدر هداية البشر، بواسطة أنبياء ورسل يبتعثهم من بين البشر، وأن محمدا خاتم الأنبياء والمرسلين. 3 - الإيمان بالآخرة دارَ حساب وجزاء.

على صعيد الشعائر: الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج وشهادة لا إله إلا الله، محمد رسول الله، تشكل أركان الإسلام الخمسة.

على صعيد الأحكام، يلزم الإسلام المسلمين بالتمسك بشريعته. إلى جانب الشعائر التعبدية، تحدد الشريعة الأحوال الشخصية وأحكام المعاملات. الزواج، الطلاق، الحضانة، النفقة، الميراث، التجارة، العقود... أحكام كل تلك وأحكام أمورٍ جمة أخرى مبينة تفصيلا في الشريعة الإسلامية.

أخيرا، على صعيد الأخلاق، يؤصل الإسلام السلامة والصلاح للأفراد والمجتمعات بسواء في الالتزام بمبادئ العدل، والمساواة، وكرامة الإنسان، والشورى في الحكم والحياة، معتبرا إياها مبادئَ جذريةً لاستقامة الشأن الإنساني، عمومه وخصوصه، في كل زمان ومكان. كذلك، يندب الإسلام إلى القيم المنمية للحياة: حاضا بالأخص على الصدق، الإحسان، الأمانة، التواضع، التعاون، إتقان العمل، الصفح، طلب العلم، حسن الجوار، إلى جانب خلائق أخرى من مكارم الأخلاق مشهودة الخير في إثراء خبرات سائر الأمم عبر التاريخ.

ما سبق ذكره هو ما تتشكل منه أرومة الإسلام وتصطبغ به عموم مضامين رسالته العالمية. التزام كافة المذاهب الإسلامية بذلك كله بيّن وثابت بسواء: جميع المذاهب تقر بالقرآن كلامَ الله المنزلَ والمحفوظَ للأبد، وبالسنة النبوية منظومةَ أفعال وأقوال فضلى ملزم اتباعها للمسلمين كافة. بهذا المعنى، كأمر أساس، جميع المسلمين يحتكمون إلى مرجعية واحدة لاستنباط أيما أمر حياتي أو أخروي له في الإسلام فهم صريح أو حكم محدد.

مع رسوخ هذه الأرضية الأساسية المشتركة، ما هو إذن هذا الذي يُختلف عليه بين مذهب وآخر في الإسلام لدرجة أن الاختلاف مراراً ما يولد تشنجاً بين المذاهب، وعندما يتفاقم يولد تعصبا متبادلا يؤدي إلى تخاصم فاحتراب؟

بنظري، لا يوجد ما يفسر ذلك سوى قصور في فهم أصحاب مذهب للمذهب الآخر، قصور ناتج عن ضيق في الاستيعاب المعرفي، لما لدى المذهب الآخر من نظر مستنبط باجتهاد منهجي مأثور لديه.

في مجال الحوار، عندما يشوب الحوار شحن تعصبي مسبق لدى المتحاورين، فإن مزيج قصور الفهم والتعصب سرعان ما يطلق فورة انفعالية تفسد سلامته، ومراراً ما تؤدي إلى إفساد الود حتى بين خُلّص الأصحاب.

في حديثي، بقدر ما سيتاح من وقت، سأستعرض نموذجا سليما، بل راق، للحوار بين المذاهب الإسلامية، بالأحرى بين السنة والشيعة على وجه التحديد، بقصد الحث على نبذ التعصب، والدعوة إلى توحيد الكلمة، وتوطيد الوئام الوطني في إطار المواطنة المتساوية بين جميع أتباع الديانات والمذاهب في كل موطن.

إقرأ أيضا لـ "صادق جواد سليمان"

العدد 5100 - الثلثاء 23 أغسطس 2016م الموافق 20 ذي القعدة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 11 | 4:11 ص

      الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق ...
      ولو أنهم إذ سلموا الموصى إليه أمورهم ## لزمّت بمأمون من العثرات
      .
      إنّ أعدى عدو للإنسان نفسه التي بين جنبَيْه... لذلك ترى المرضى النفسيين يأبون التقارب ويؤيدون التناحر والخلاف ويشعلون نار الفتنة أينما كانوا والفتنة أشد من القتل...

    • زائر 10 | 2:53 ص

      سلطنة عمان مثالا يحتدى

      وعلى الشعوب ان تعي جيدا لما يحاك ضدها وعلى الامهات والمؤسسات التى تعنى بتنشأة الشباب ان تنشأ جيلا صالحا يتعالى على المذاهب والعنصريات

    • زائر 9 | 2:21 ص

      لم تكن هناك مشكلة طائفية قبل سطوع نجم جماعات الاسلام السياسي ..

    • زائر 8 | 2:05 ص

      عادي ان يكون الانسان له معتقداته الخاصة به مهما كانت، وفي النهاية ينتصر العقل والمنطق بعيدا عن الخزعبلات

    • زائر 6 | 1:16 ص

      كلام راقي فعلا...تعبنا من الكلام المليئ بالتفرقة والعنصرية المذهبية...بانتظار الجزء الثاني من المقال...

    • زائر 5 | 1:08 ص

      الحمدلله بلدنا بلد التعايش مع جميع الأديان بشهادة الجميع بارك الله في جلالة الملك وسدد خطاة ونصرة

    • زائر 7 زائر 5 | 2:05 ص

      فعلا كلامك صحيح والدليل تخريب مقام صعصعة وأفعال أخرى على نفس المنوال...

    • زائر 3 | 12:42 ص

      بارك الله فيك موضوع في غاية الأهمية لتوحيد الكلمة وتوطيد الوئام الوطني في إطار المواطنة المتساوية بين جميع الأديان والمذاهب

    • زائر 2 | 12:33 ص

      الشحن والتعصب للمذهب هو بداية الاختلاف

    • زائر 1 | 11:39 م

      لست معك فالتعامل بالعنصرية والطائفية وتقسيم المجتمعات هو الأفضل للسيطرة عليها ولكي لا تحصل على شيء من مطالبها

    • زائر 4 زائر 1 | 1:06 ص

      كلام سليم لكن لماذا وقعنا في المصيدة وقسمنا انفسنا بأنفسنا إلا نعتبر مشاركين في هذا التقسيم والفرقة بيننا

اقرأ ايضاً