العدد 5104 - السبت 27 أغسطس 2016م الموافق 24 ذي القعدة 1437هـ

لتيسير قبّعة «اسم الوردة»!

عبدالحسين شعبان comments [at] alwasatnews.com

كاتب عراقي وحقوقي عربي

حين شرعت بإعداد كلمتي هذه، سألت نفسي: تُرى ما الذي سأطلقه على تيسير قبّعة، غير ما كنّا نفضل أن نناديه بـ «أبوفارس». قلت لنعد إلى أحبّ وصف للعراقيين حين يصفون به من يحبونهم بـ «الوردة»، «وكانت الوردة اسماً، ونحن لا نملك إلاّ الأسماء»، تلك هي العبارة التي قالها الروائي امبرتو ايكو، والتي يمكن أن تُنقش في حضرة تيسير قبّعة. إذا كان اسم الوردة ينطبق عليه، فهنا الوردة، فلنرقص هنا، بحسب ماركس.

واسم تيسير قبّعة، له وقع خاص في ذاكرتي، التي علق فيها ولم يغادرها منذ نكسة يونيو/ حزيران العام 1967. وارتبط الاسم بنوع من الكتمان والبوح في آن، فقد كانت رسالةً قد وصلتنا من براغ إلى بغداد (أواخر العام 1967)، هي عبارة عن لفافة ورق خفيف، كنّا نستخدمه في العمل السرّي، تُعلمنا بأن تيسير قبّعة رئيس الاتحاد العام لطلبة فلسطين، تسلّل إلى الأرض المحتلّة واعتقل هناك، وعلينا تنظيم حملة تضامن معه.

حين أنهى تيسير قبّعة محكوميته التي دامت ثلاث سنوات في سجن المسكوبية بالقدس، أُبعد إلى الأردن. تسرّب الخبر إلينا فأبرقنا إلى «الحكيم»، لكي يمكّن قبّعة من حضور المؤتمر العاشر لاتحاد الطلاب العالمي، الذي انعقد في مدينة براتسلافا. وخلال أيام وصل تيسير قبّعة فعلاً، وكان النجم الفدائي الساطع في ذلك المؤتمر التاريخي، وطال العناق والشوق، واستمرّ منذ اللقاء الأول في (يناير/ كانون الثاني العام 1971).

سأظلّ أتذكّر ذلك الاسم وتلك الصورة، التي ارتسمت في ذاكرتي منذ نحو نصف قرن من الزمان وأستعيدهما باستمرار، وأستحضر تلك السجايا التي استجمعتها من علاقة مديدة، لأن تيسير قبّعة قامة وقيمة. قامة لأنه ظلّ مرتفعاً، ولم يهبط حيث الصغائر، وقيمة لأنه مثّل قيماً سامية، وخصوصاً في فترات التراجع والانكسار وتبديل الأسماء والصور.

حارب تيسير قبّعة في ثلاث دوائر: الدائرة الأولى كانت الدائرة الفلسطينية، لتعزيز دور اليسار وتوطيد توجهه، وإعادة النظر ببعض مواقف اليسار التقليدي من القضية الفلسطينية، والثانية كانت الدائرة العربية، لتأكيد وتعزيز الدور الفلسطيني المستقل لينسجم مع شعار «مركزية القضية الفلسطينية»، والثالثة هي الدائرة العالمية، حيث حشد جهوداً كبيرة لكسب الأصدقاء للشعب الفلسطيني وللأمة العربية، ولاسيّما من اليسار العالمي، فإضافة إلى الحركة الشيوعية، كان يسار آسيا وإفريقيا، إضافة إلى يسار أميركا اللاتينية وأوروبا شغلاً شاغلاً له، ولاسيّما حركات السلم والتضامن.

وبقدر ما هو فلسطيني، فهو عروبي، لأنه يعرف القوّة الكامنة في الوحدة المصيرية للنهوض الحضاري العربي، وبقدر ما كان عربياً، فهو أممي يعرف معنى التضامن، وقد لمس ذلك من خلال تأثير حملة التضامن معه، مثلما كان يدرك أهمية البعد الإنساني للعلاقات النضالية.

كان تيسير قبّعة يحمل الكثير من عناصر القوّة في شخصه، سواء جوانبها المعنوية والروحية أو في جوانبها المادية، وخصوصاً بتوفّر الإرادة والوعي، وبقدر ما كان ثورياً وفدائياً وصلباً وحازماً، فقد كان في الوقت نفسه دافئاً وحميماً ورقيقاً ومرناً، وإذا كان له خصوم كثيرون، فلم يكن له سوى عدوّ واحد هو العنصرية الصهيونية. لقد كان تيسير قبّعة واضحاً في حبّه وفي كرهه، غير مخادع أو مخاتل، وكان من أكثر الصفات التي يمقتها هما الغدر والجحود، وتلك فروسية المقاتل الأصيل ونبل الفارس الحقيقي.

الاسم والصورة ازدادا إشراقاً. وكلّما تعرّفت على تيسير قبّعة أكثر وجدته صاحب مروءة ووفاء، فما قيمة مناضل من دون مروءة ووفاء؟ ثم ما قيمة الأفكار من دون ذلك؟ كان سخياً وكريماً على نحو تلقائي وعفوي، لأنه شجاع، وكلّ كريم شجاع، وخصوصاً إذا تعلّق الأمر بكبريائه وكرامته الشخصية والوطنية، وفي الوقت نفسه كان متواضعاً وغير متكلّف، لكنه كان من السهل الممتنع.

تيسير قبّعة حتى وإن اختلف أو تخاصم أو أخطأ، فإنه صاحب ضمير حي ووجدان يقظ، وهو ما كان هادياً لبوصلته على المستويين الخاص والعام، والشخصي والوطني.

ومنْ لم يخف عقب الضمير

فمن سواه لن يخافا

كما يقول الشاعر الجواهري، «إذْ يتوجّب على الإنسان الشريف أن يكافح الجميع، ويتجرّع كل أنواع السموم التي يقدّمها الأصدقاء والأعداء» بحسب كازانتزاكي.

كان تيسير قبعة سياسياً أكثر ممّا هو حزبي، وفلسطينياً أكثر مما هو فصائلي، وعربياً بالانتماء والهويّة، حيث الشعور الطبيعي، وقد لقّح عروبته المنفتحة بالنزعة الأممية الإنسانية، وتلك عناصر اتّحدت في شخصيته على نحو متّسق بنضوج تجربته، واغتناء معرفته، واتّساع علاقاته، وتنوّع أنشطته.

وإذا كانت الأرض «الولود» قد أنجبت تيسير قبعة، وكوكبة لامعة من المتميّزين والمبدعين، فإنها على رغم كل النكبات والنكسات والآلام والمآسي، لاتزال مثل أزهار شقائق النعمان بقدر ما فيها من رقة وجاذبية، ففيها من الصلابة والعناد الشيء الكثير، إنها تأبى إلاّ أن تشقّ الصّخر، وتفلق الحجر، لتزهر، حتى وإن «هطلت الحجارة» فيها على الصحراء، فإنها تستصلحها لتثمر تيناً وزيتوناً، على حدّ تعبير إميل حبيبي.

الحزن المبجّل والصبر الجميل لعائلة تيسير قبّعة، لزوجته ابتسام نويهض، وولده فارس وكريماته رانيا ورُلى وديمة، ولرفاقه في الجبهة الشعبية ولأصدقائه الفلسطينيين والعرب، فقد أوجعنا من الأعماق غياب تيسير قبعة، وكما قال الشريف الرضي:

ما أخطأتك النائبا

تُ إذا أصابتْ من تُحبُّ

لقد عاش تيسير قبّعة حياة حقيقية جداً وواضحةً جداً وحالمةً جداً، عاش بكبرياء ورحل بكبرياء أيضاً، وظلّت بوصلته قلقيلية دائماً.

تيسير قبعة، اسمح لي، باسم نخبة من المثقفين واليساريين العراقيين الذين افتقدوك صديقاً وفياً ومناضلاً مقداماً، ألاّ نقول لك وداعاً... تيسير قبعة نحن نقول لك اشتياقاً... وسنظلّ نقول اشتياقاً.

إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"

العدد 5104 - السبت 27 أغسطس 2016م الموافق 24 ذي القعدة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً