العدد 5106 - الإثنين 29 أغسطس 2016م الموافق 26 ذي القعدة 1437هـ

نقاش حول مفهوم «الطبقة الوسطى» انطلاقاً من مقالة حسن مدن

عيونٌ مغلقةٌ باتّساع...

حسن مدن
حسن مدن

في مقالته «اضمحلال أم تغيير وظائف»؟ المنشورة في صحيفة «الخليج» الإماراتية يوم الأربعاء (17 أغسطس/ آب 2016) يطرح حسن مدن أسئلةً، أو يفتحُ مجالاً للنقاش حول مكانة «الطبقات الوسطى» في العالم العربي، وبالضرورة، وجود هذه «المكانة» وجوداً علائقياً بالتردِّي العام، أو بارتفاع نسبة هذا التردِّي، أو حتى بوجود «التنظيمات الإسلامية العربية». لهذا الأمر خصوصاً، يأخذ مدن منحى صحيحاً في تحديد «وجود» الطبقات الوسطى هذه تحديداً اجتماعياً بشكل أساسي، وهذا ما أودُّ أن أساهم في مناقشته، وأسلِّط الضوء على أحد جوانبه.

من الملاحظ أنّ مدن مهتمٌ بتفسير «عملي» أكثر، أو قل: بتعريفٍ لا يتّسم بالابتذالية المعهودة عند بعض السوسيولوجيين المحترمين، لمفهوم الطبقة الوسطى. فهو يقوم بملاحظة الافتراض القائل بأنّ الطبقة الوسطى «تتوسط»، وبذلك التوسط تتكوّن شخصيتها عموماً: مترددة، متذبذبة، مشوّشة... إلخ، هي بين الطبقات «العليا» و «الدنيا»، وتطمحُ إلى العلا لكنها غالباً ما تُخذل، هو افتراضٌ صحيح في المبدأ. لكن ما ينقص هذا الافتراض، وفقاً لمدن، هو، بجانب من كلاسيكيته إذا أمكن القول، أنّه لا يُعير اهتماماً لحقيقة هذه «الفئات الوسطى» أو «الطبقات الوسطى» في الواقع الملموس للعالم العربي، الذي خلال هذا الواقع نشهدُ أنها أصبحت أكثر ثباتاً، ولها دور سياسي واجتماعي مؤثر.

إذن، المسألة التي يطرحها مدن على القارئ للنقاش هي «مفهوم» الطبقة الوسطى. وهو قد ناقشها من ناحية «الثبوت» و «التذبذب»، ووجودها، ككيان، في المجتمع بشكل عام (أيّ دورها أو مكانتها(.

من أجل مناقشة ما طُرح، لابد من مقاربة لغوية، أي نظرية، للمفهوم نفسه، أو بكلمات أخرى: مقاربة للعناصر اللغوية التي تصبح النظرية مُركّبها، أو موحِدها مفهوماتياً.

يُكثر استخدام مصطلح «الطبقة الوسطى» في أدبيات علم الاجتماع، والسياسة، والتاريخ الهائلة في العالم العربي. لكن لا يوجد اهتمامٌ كافٍ بـ «المفهوم» نفسه، بقدر ما يوجد ذلك لدلالة المفهوم - التي قد تكون ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية، أو كلها في آن، (هذا يعتمد حقاً على الباحث نفسه). ما الذي نقصده حقاً عندماً نقول «الطبقة الوسطى»، أو «الفئات الوسطى»، أو حتى «الطبقات الوسطى» ؟ من هي جماعات هذه «الطبقة» أو «الطبقات»؟ كل ذلك يستدعي لنا الغموض المتمحّور حول المفهوم نفسه.

ما هي تلك الطبقات؟

في الحقيقة، ما هي تلك الجماعات الاجتماعية التي تكوِّن تارة «طبقات» (جمع «طبقة») وتارة أخرى «فئات» (من ..؟) ؟ ولماذا الاختلاف النوعي والكمي في الدلالة (فئات... طبقات... طبقة).

يبدو لي الاستخدام اللفظي المتحوّل لا يجد الفرق المصطلحي ما بين «فئات» أو «طبقات»، بما أنّه يدلل على الغموض والتذبذب الموجود عند هذه «الطبقة المتوسطة». لكن، في الواقع، لا يمكن أن تكون جماعة واحدة متماثلة في وجودها الاجتماعي أن تتفرع لطبقات، أي لا يمكن للطبقة الوسطى على سبيل المثال أن تتفرع إلى: (الطبقة أ)، أو (الطبقة ب)، أو (الطبقة ص)، من الطبقة الوسطى نفسها (كمن يحدد المثقفين والبيروقراطيين والمدرسين كطبقات بحد ذاتها). وفي المقابل، لا يمكن إن تتواجد «فئات» هكذا دون انتماء، أي دون انتماء طبقي محدد - إذا كانت هذه «الفئات» الوسطية موجودة، فإلى أية طبقة تنتمي؟

هذا الغموض اللغوي كله (حول «الطبقات» أو «الفئات») يفسّر غموضاً آخر وهو استخدام مصطلح «وسطى». حيث اصطلاحا «طبقات» أو «فئات» و «وسطى» يتماشيان بانسجام: غموض الأول اللفظي يفسر غموض الثاني الاجتماعي. إنها «وسطى» لأنها «تتوسط» أهم قطبين «العليا» و «الدنيا»، وبذلك المفهوم يصبحُ «الوسيط» (سياسياً، وأيديولوجياً، واقتصادياً) ما بين هاتين الطبقتين الرئيسيتين، أي أنها الفضاء التوازني المجتمعي، بكونها العجين ما بين «العليا» و «الدنيا»، ومحطة الترانزيت للصعود إلى «الأعلى» أو للهبوط إلى «الأسفل». بذلك يكون اختلالها أو «انحلالها» هو انحلال واختلال المجتمع.

لذلك يرى التفسير المعاصر، وكذلك الكلاسيكي، أنّ نزوع الرأسمالية نحو إزالة هذه الطبقات «المتوسطة» يؤدي إلى زيادة حدَّة الصراع الطبقي ما بين الطبقة «العليا» و «الدنيا». فمثلاً هذا ما رأته الأناركية إيما غولدمان، في «بؤس البروليتاريا الثقافية»، كجزء من تطوّر الرأسمالية في حصر المجتمع على نحو طبقتين نقيضتين. أو مثلاً تصنيف كاوتسكي، وعامة التيار الأممي الثاني، للمجتمع بأنه متناقض ما بين «طبقة الرأسماليين» وطبقة «العمَّال المأجورين»، أي أن الصراع كائن ما بين «الأغنياء» و «الفقراء». أو مثلاً ادِّعاء الحزب الشيوعي البريطاني (الماركسي - اللينيني) بأن الصراع الاجتماعي الرأسمالي هو الصراع الدائر منذ 200 سنة تقريباً: ما بين الطبقة «البورجوازية» والطبقة «العاملة» (وتلك الفئات الوسطية تنتمي إلى هذه الطبقة - بما أنها مأجورة).

الطبقة المؤقتة... الثابتة

فتتوجَّه النظريات إلى التالي: إمّا حصر المجتمع في طبقتين، أو الإقرار بوجود هاتين الطبقتين لكن بوجود طبقة مؤقتة، أو أحياناً ثابتة، تتوسطهما.

لكن المشكلة الرئيسية هي في غياب التحديد البنيوي للطبقات عن هذه التحليلات عموماً، وبذلك يكون الغموض حاضراً.

في الحقيقة، مصطلح «الطبقة الوسطى» غير ملائم على الإطلاق، لأنه يحصر المجتمع إلى «أغنياء» و «فقراء»، وهذا الحصر يفترض لغة بورجوازية خاصة (كما عند ماكس فيبر مثلاً) في تصنيف الطبقات وفقاً لـ «المدخول»: فالطبقة العليا لها مداخيل «عالية»، والدنيا «متدنية»، إلخ. تلك الطبقة - الوسطى - كلاسيكياً أطلق عليها «البورجوازية الصغيرة»، (لكن، أيضاً، كلما أراد أحدهم أن يشتم الآخر فما عليه إلا أن يطلق عليه «برجوازي صغير»). ولأنه كلاسيكي، فيعتبر، اليوم، ألَّا أهمية له، لأننا الآن في المجتمع «الما بعد - الصناعي» الذي تفكَّكت فيه هذه الطبقة سلفاً. فالطبقة الوسطى المعاصرة تغدو تلك الجماعات التي يُطلق عليها «العمَّال أصحاب الياقات البيضاء». ولا يُطلق عليها كذلك إلا لأنها يغلب عليها التحديد الاقتصادي وحده.

التحديد البنيوي للطبقات لا يمكنه أن ينحصر في التحديد الاقتصادي وحده، على رغم أهميته. غياب التحديد السياسي والأيديولوجي هو العلّة الرئيسية لهذا النقص الذي نجده. ولا يكفي أن نحدِّد الطبقات على نحو بنيوي فحسب، دون أن نقرّ ضمناً: لا توجد طبقات بشكل محض «هكذا»، دون «فئات» و «شرائح». ولا توجد الطبقات أولاً ثم تدخل في صراع، حيث وجودها هو الصراع، أي الوجود هذا ممارسة. لكن، أيضاً، التحديد البنيوي لا يحدد «الموقع» الطبقي في «حالات» الانصهار السياسي، هنا تأتي أهمية «الفئات» و «الشرائح»، حيث «شريحة» مثل الأرستقراطية العمالية، التي تنتمي مكانياً وتحديدياً إلى الطبقة العاملة، في «حالات» كتلك قد تتموقع تموقعاً بورجوازياً ضد مصالحها الطبقية، بينما «فئات» و «شرائح» من الطبقة البورجوازية الصغيرة على سبيل المثال قد تتموقع تموقعاً عمالياً في «حالات» معينة.

فإذا أردنا الحديث عمَّا يُسمى بـ «الطبقة الوسطى» أو «العمّال أصحاب الياقات البيضاء»، فلا يمكننا الحديث عن تحديدها الاقتصادي فحسب، بل السياسي والأيديولوجي كذلك. في الواقع، وجود هذه الطبقة هو مستقل عن الطبقة العاملة، على رغم أن كلتا الطبقتين تعتبران ضمن «المأجورين». لكن هنا أيضاً، ننسى أن التوسع الرأسمالي في كل نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية، يفرض بالضرورة وجود شكل «الأجور» في هذه النواحي. فتصنيف «مأجور» لا يكفي لتحديد انصهار كلتا الطبقتين في طبقة واحدة. وننسى أن وجود ما يسمى بـ «أصحاب الياقات البيضاء» (الطبقة الوسطى) يختلف عن «الطبقة الوسطى» قديماً، أي تلك البورجوازية الصغيرة التقليدية التي بالفعل أخذت تضمحل.

عن الطبقة الجديدة

فمنذ خمسينيات القرن الماضي، تعدَّدت الدراسات حول هذه الطبقة الجديدة، بدءاً من المفكر الأميركي اللامع المنسي تشارلز رايت ميلز، وبروزها في الساحة الاجتماعية. لا يمكننا أن نغض النظر عن تمرحل الإمبريالية ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي في توسعها بحد ذاته، والنزوع نحو هبوط معدل الربح، الذي يُقارع من خلال الاستغلال المفرط للطبقة العاملة على نحو عالمي (أي إدخال التصنيع التابع إلى البلدان التابعة (عالمية العلاقات الرأسمالية)، بذلك تغيير تركيبتها البنيوية)، وتوظيف رؤوس الأموال في قطاعات غير منتجة (للقيمة الزائدة) - تلك التي تسمى بـ «القطاع الثالث»، حيث توسع الرأسمالية يفرض ضمناً التقليل من أهمية الطبقة العاملة عبر غلبة العمل الميت على العمل الحي. هذا يؤثر على التركيبة البنيوية للرأسمالية، وأدَّى إلى ظهور طبقة «بورجوازية صغيرة جديدة» كما يطلق عليها نيكولاس نيكو بولانتزاس.

إنها، على العكس من البورجوازية الصغيرة التقليدية (ومثل الطبقة العاملة)، مجردة من وسائل الإنتاج ومأجورة. لكن تحديدها البنيوي هو تحديد البورجوازية الصغيرة التقليدية. اقتصادياً إنها تقوم بعمل غير منتج للقيمة الزائدة (على العكس من البروليتاريا). بينما إيديو - سياسياً فهي تمثل العمل الذهني (على رغم أن هذا لا يعني أنها تعمل ذهنياً فقط - حيث الهومو سيبيان هو الهومو فايبر وفقاً لغرامشي) حتى تلك الشرائح الدنيا منها، بذلك تمثل «سلطة» على العمَّال نفسهم.

طبعاً لا يمكننا أن نصنف الطبقات تصنيفاً إحصائياً أو كمياً (وفقاً للدخول أو الحجم)، لكن من الملاحظ أن هذه الطبقة - البورجوازية الصغيرة الجديدة - في تنامٍ مستمر في البلدان الرأسمالية المتقدمة، بينما يقابلها تضاؤل حجم الطبقة العامل (حيث قد يصل عددها إلى 20 في المئة)، التي تعمل عملاً منتجاً. من المهم إن نشدد، تبعاً لبولانتزاس، على أن العمال الخاضعين للرأس المال الأميركي، على سبيل المثال، هم ليسوا العمال الأميركيين فحسب، بل كل من هو واقع تحت هيمنة رأس المال الأميركي - عمال البلدان التابعة: أميركا اللاتينية، آسيا، إفريقيا، الخ. حيث لا يمكن حصر الطبقة العاملة في الأبنية الاجتماعية المفردية فحسب، حيث لا مجال للحديث عن عالم معاصر فيه بنية اجتماعية مستقلة.

تنامي الطبقة بتغيُّر التركيبة

من الواضح، عبر التصنيع التبعي الذي نجده في البلدان التبعية الكولونيالية، نجد هذه الطبقة تتنامى، بتغير تركيبة هذه البلدان، ولاسيما في العالم العربي. إنها أيضاً تتنامى، وتكسب مظهر «الثبات» هذا الذي تحدث عنه مدن. ما الذي يتضاءل حقاً، دون أن يعني ذلك اختفاء، هو الطبقات التقليدية مثل طبقة الفلاحين والطبقة البورجوازية الصغيرة التقليدية (وفي ذلك أمر مضحك: حيث لا يزال يطالب البعض بتحالف العمال والفلاحين بمعزل عن الظروف الملموسة). إن التحقيق الدقيق لن يرى اضمحلال أو اختفاء هذه الطبقة، التي تسمى بالوسطى، بل بنموها المطرد.

أهم خطوة في فهم مجتمعاتنا العربية هي التخلِّي عن الدوغمائيات الكلاسيكية السابقة، ولاسيما السوسيولوجية منها، حول حقيقة مجتمعاتنا، أي الحقيقة الملموسة. وذلك ينعكس على الجدل الدائر حول مفهوم «الطبقة الوسطى» ودورها وأهميتها. فهم الوضع، والحالة، والظرف الملموس يدفعنا موضوعياً لفهم الحالة الراهنة لضرورات وحيثيات التحالفات الطبقية وعملها التغييري، التي لا يمكن حصرها في الطبقة العاملة وحدها. هذا النقاش طبعاً لن يكون كافياً في مقالة لها عدة صفحات، غير أنها تسلط الضوء على ثيمات معينة، كما قال مدن في مقالته، حيث إنها تحتاج إلى نقاش موسَّع وتفكير عميق.

في فيلم «عيون مغلقة باتساع» للمخرج ستانلي كوبريك، بعد أن ينتهي الطبيب بيل هارفورد من مغامراته الإيروتيكية لليلة واحدة (بعد اكتشافه أن لزوجته تخيلات وأحلاماً إيروتيكية مشابهة تجاه رجال آخرين) يواجه زوجته معترفاً بكل شيء. توافق هي على التخلي عن «ليلة واحدة» على رغم أنها تشكل «حقيقة ما»، وهو يوافق بدوره على ذلك لأن «الأحلام ليست مجرد أحلام»، وما يهم الآن هو أنهما «مستيقظان» ولوقت طويل جداً.

أعتقد إننا، ولمدة طويلة، أغلقنا عيوننا باتساع، بعيداً عن كل الحقائق، بعيداً عن كل التغيرات والتطورات، متمسكين بـ «الليلة الواحدة» التي لابد من التخلي عنها. وفي المقابل كان علينا، وهذا الأصعب، أن نتخلَّى عن أحلامنا، على رغم أنها «ليست مجرد أحلام». نحن يقظون الآن، وسنبقى كذلك لفترة طويلة جداً... دون أحلام، دون تخيلات. واعون، بأعين مفتوحة باتساع على عالم حاجب عينيه عنا. خلال هذا الواقع وحده يمكننا أن نشرع في تحليله وفهمه، وهذا ما دعت مقالة مدن إليه.

تشارلز رايت ميلز
تشارلز رايت ميلز




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً