العدد 5128 - الثلثاء 20 سبتمبر 2016م الموافق 18 ذي الحجة 1437هـ

موت غير معلن

مضت يومان على غيابه، وفي صبيحة اليوم الثالث أخذ صراخ النسوة وعويلهن يعمّ المكان بينما أهل القرية احتشدوا أمام بيت الحاج حسون، وهم يتبادلون الأحاديث حول غياب حسيب ابن الحاج حسون. والكلام كثير واللغط يعم المكان. فمن قائل إنه خرج قبل يومين ولم يخبر زوجته، ولا أمه إلى وجهته التي سيذهب إليها، ومن يقول إنه أخبرهم بوجهته ولم يعد.

في هذه الأثناء وبينما الهرج والمرج قائم خرجت امرأة وشقت صفوف المحتشدين وهي تولول وتدعو الله أن يعيد ابنها الوحيد إليها، وألاّ يترك زوجته الشابة وطفلته الوحيدة ضائعتين، توقفت ثم قالت للمحتشدين: الله يبارك فيكم يا الأجاويد، يا أهل الديرة: أين حسيب ألم يره أحد منكم؟. أين ولدي؟ قلبي يتفطر، منذ يومين خرج من البيت ولم يعد، على غير عادته. الله يخليكم ويوفقكم ساعدونا في العثور عليه. لم أنم ليلة البارحة من حزني عليه. أنه وحيدي. فعرف المحتشدون كلهم أنها أم حسيب.

سألها احد الحضور: خالة أم حسيب: ألم يخبركم إلى أين سيذهب؟

أم حسيب وهي تتكلم بصوت فيه حرقة: لم يخبرنا بذلك، لكنه كعادته لا يذهب بعيداً عن القرية. يأخذ دراجته ويذهب ثم يعود.

هنا تأثر الحضور من حال أم حسيب وحالتها النفسية وتوزعوا جماعات، وبناء على شائعات غموض اختفاء حسيب توجهت مجموعة باتجاه البحر على أمل أن يجدوه هناك، ومجموعة باتجاه المزارع والحقول وثالثة باتجاه الشارع العام المؤدي إلى خارج القرية، ومجموعة رابعة بقيادة عبود بن سلمان صديق حسيب تبحث في الجهة الجنوبية الشرقية من القرية، بين التلال والمزارع.

وبينما كانت المجموعة الرابعة المكونة من أربعة أشخاص بقيادة عبود تتحرى في المكان وتبحث لساعات، سأل علي: لقد بحثنا كثيراً وتعبنا، إذن أين سيذهب حسيب؟ وهو لم يعد طفلا، ما شاء الله.

أجاب عبود: والله بصراحة أمره محير، وكما تقول أمه إنه خرج من البيت منذ يومين، وهذا هو اليوم الأربعاء، اليوم الثالث لم تره. تقول خرج على دراجته الهوائية مساء يوم الاثنين، وأخبرها أنه سيعود بعد العشاء. لكنه لم يعد، وليس له أثر.

تظاهر عبود بالجدية وأنه حزين على غياب حسيب، وقال: إنه لابد سيعود إلى أهله فربما ذهب إلى أصدقائه في إحدى القرى المجاورة واستضافوه ومكث عندهم، أو ربما ذهب إلى السينما في المدينة كعادته ثم مكث عند بعض معارفه هناك.

هنا تدخل عليُ وهو يوجه كلامه إلى صابر أحد أفراد المجموعة: ولكن كما أعرف ويعرف الجميع أن حسيباً صديق حميم لعبود، ولا يخرجان إلا معاً ومن المؤكد أن عبود يعرف عن سر اختفائه أو على الأقل يعرف عنه أكثر منا، وأردف: هيا بنا نعود إلى منزل حسيب فقد تعبنا من التحري والبحث، ولا فائدة.

صرخ عبود في وجه علي قائلاً: ماذا تقصد من كلامك، يعني أنك تتهمني بإخفاء حسيب. والله لا أعرف عنه شيئاً، وهاأنذا أبحث معكم عنه منذ الصباح.

قال علي: أبداً لم أقصد اتهامك، بل قصدت أنك بحكم العلاقة القوية مع حسيب ربما تعرف الأماكن التي عادة ما يتردد عليها. إلا أن عبود نفى أنه يعرف الأماكن التي يتردد عليها حسيب، وأن علاقته به في القرية فقط، وأنه لم يره منذ أسبوع.

بينما الحقيقة أن علياً ومن خلال خبرته بعبود كان يستشعر شيئاً غامضاً لدى عبود بخصوص اختفاء حسيب، لكنه لا يستطيع تأكيد ما يستشعره. مجرد حدس، وهذا لايكفي لاثبات علاقته بالاختفاء.

لقد هزت كلمات علي كيان عبود واعتقد أنه ربما ينكشف أمره حول اختفاء حسيب، دون أن يعرف أن ما يقوله علي مجرد تكهنات لا دليل عليها، لذلك حاول عبود أن يموه  على سبب اختفاء حسيب ويدفع عن نفسه شبهة اختفائه، فقام بإبلاغ مخفر الشرطة وفتح محضر اختفاء حسيب. وقد استطاع إبعاد الشبهة عنه على الأقل في العلن ولم يوجه له أحد تهمة اختفاء حسيب، حتى مضى زمن ليس بالقليل على اختفاء حسيب، وبردت القضية وانفض الناس، وبات الغموض يلف الموقف ويكاد ينساها الناس مع مرور السنين.

حينها لم يبق سوى حزن الحاج حسون ولوعة خاتون أم حسيب على وحيدها الذي انتظرت عودته حياً أو ميتاً، وزوجته المنحوسة وطفلتها.

لقد بدا الحاج حسون صابراً في الظاهر لكن في قرارة نفسه كان ألمه كبيراً على اختفاء حسيب وخاصة أنه يمثل الابن الأول وعد المستقبل بالنسبة له، وكان يحظى بحب أبيه أكثر من إخوته وأخواته، وكان أكثرهم قواماً وجمالاً، وكان أبوه يلقبه بشيخ الشباب لوسامته، ومع ذلك ظل الأمل يراوده بأنه سيعود عما قريب.

أما بعض أهالي القرية العارفين بعلاقة عبود وحسيب منذ زمن فقد حسموا أمرهم منذ البداية بأن عبود هو وراء اختفاء حسيب حتى بدون دليل، وهو يعرف الحكاية من البداية إلى النهاية. وربما كان بعضهم يعرف بالحدس أن حسيباً قد اختفى نهائياً من الوجود ولن يعود، وعبود يعرف ذلك تماماً هذا إذا لم يكن وراء كل ما جرى لحسيب، كما أن عبود بحكم سوء سيرته لا يتردد في فعل أي شيء حتى مع أقرب المقربين له.

وقد بنى بعض الأهالي هذا الاستنتاج على مشاهدتهم لحسيب في أمسية ذلك اليوم المشئوم مع عبود وهو يقود سيارته الأوستن وهما يخرجان مساءً من القرية، وعاد عبود في تلك الليلة ولم يعد معه حسيب. دون أن يشعر الأهالي بذلك إلا بعد ثلاثة أيام.

ومن خلال الأحاديث والروايات المتداولة همساً أو علناً لدى الأهالي حول علاقة اختفاء حسيب بعبود تأكد لدى علي أن ما كان يحدس به بات حقيقة بدليل أن بعض أهالي القرية يشاطرونه نفس الفكرة وأن عبود هو سبب اختفاء حسيب. ولكن ما من قرينة أو دليل على اتهام عبود، وأن ما يقوم به عبود هو من باب التضليل وإبعاد الشبهات عنه ،ليس إلا.

وبينما بدأ أمر اختفاء حسيب يتلاشى سرت أثناء ذلك  شائعات في القرية حول الاختفاء والملابسات تقول إحداها: بأن خلافاً وقع بين عبود وبعض أفراد الشلة التي يتردد عليها في إحدى القرى المجاورة ويجتمعون في بيت حنيف. وفحوى الخلاف هو توزيع الأنصبة في لعبة قمار حيث لم يرضَ حسيب بنصيبه فتلاسن حسيب مع عبود فقام عبود بضربه على وجهه، فقام حسيب برد الضربة إلى عبود فقام البقية بضرب حسيب ضرباً مبرحاً وبعنف وظل ينزف دماً من مختلف أنحاء جسمه وأكمل عليه عبود بخنقه حتى أغمي عليه فمات.

وتسترسل الحكاية أنه عندما وجدوا أفراد الشلة أنفسهم وقد تورطوا في قتله قاموا بنقله في جنح الظلام إلى أطراف القرية المجاورة في التلال ودفنوه وعادوا إلى بيت حنيف وكأن شيئاً لم يكن، ثم تفرقوا بعد أن أزالوا كل آثار الجريمة، وعاد عبود إلى بيته بدون حسيب. ومع ذلك ظلت هذه الرواية مجرد شائعة لم يستطع أحد التحقق من صحتها .

أما الشائع / الرواية الأكثر انتشاراً ولكن الأكثر همساً بين الأهالي عن سبب اختفاء حسيب فهي تؤكد حضور عبود لكنها تختلف من حيث التفاصيل والملابسات. فتقول إن صديقه عبود وجماعته قاموا بقتل حسيب ليس بسبب الخلاف على توزيع أنصبة القمار، بل بسبب محاولة عبود وأصدقائه: حبيب، وحنيف، وشريف باغتصاب حسيب  وقد كان أصغرهم سناً هذا فضلاً عن ما يتمتع به من وسامة وطلعة بهية فقاومهم بشدة فقاموا بضربه وركله في كل أنحاء جسمه فسقط صريعاً. ولما تورطوا به قاموا بدفن الجثة في مكان مجهول وعاد كل منهم إلى بيته بمن فيهم عبود.

وأهالي القرية في أحاديثهم الخاصة ربما يميلون إلى هذه الرواية وذلك لما يعرفونه عن عبود من شذوذ وعلاقات مشبوهة. وأنه لا يتورع في سبيل إشباع نزواته، كما أن بعض الأهالي رأوا حسيباً، آخر مرة مساءً راكبا السيارة قبل ثلاثة أيام مع عبود.

وبعد أن أنهى عبود وأصدقاؤه فعلتهم بحسيب وعاد عبود إلى بيته قام بالتخلص من الدراجة الهوائية التي تركها حسيب وذلك ليتخلص من كل الآثار الدالة على اشتراكه في اختفاء حسيب. وظلت الشكوك والروايات تدور حول عبود لكن ما من دليل يدينه، أو يثبت انه وراء اختفاء حسيب. ولف الصمت والغموض قضية اختفاء حسيب.

بعد اختفاء حسيب عاش عبود عمراً مديداً دون أن يستطيع أحد أن يؤكد أو ينفي عنه سر اختفاء حسيب، لكن مع مرور الوقت بات لدى الأهالي ما يشبه الإجماع بأن عبود هو المسئول عن اختفاء حسيب وما ينقص ذلك هو الدليل القطعي. أما علي ومع مرور الوقت أصبح ليس لديه أدنى شك في ان عبود هو وراء اختفاء حسيب بالتأكيد، لكنه لا يملك الدليل المادي على ذلك، ولا يكفي التخمين أو الحدس في مثل هذه القضايا. وأن حسيباً أصبح وراء الأفق منذ ذلك اليوم المشئوم.

ومع ذلك يبقى كل ما يتردد من أقاويل وكلام هنا وهناك في إطار الشائعات التي لا يمكن الجزم بها أو تأكيدها. وهل عبود هو الفاعل الحقيقي أو مشارك أو بريء تماماً من اختفاء حسيب. لا احد يعلم.

مضت الأيام والسنون ولم يعد حسيب إلى أهله وذويه وسُجل أنه مفقود أو ما يشبه الموت غير المعلن، وظل أبوه حجي حسون وأمه خاتون ينتظرانه على أمل أن يعود في يوم ما، ولكنه لم يعد، ومضى الزمن وماتت أمه حزنا وغصة عليه، ثم مات أبوه وفي قلبه حسرة، ونسي الناس ما جرى وانقطع الأمل.

أما عبود حديث الناس وبطل الحكاية  فعاش حياته بالطول والعرض دون أن يأبه لشيء أو لما يقوله الأهالي همساً طالما لا يوجد دليل على انه وراء اختفاء حسيب. وأصبح الأهالي بعد تطاول الزمن يطلقون عليه فقيد القرية الذي ذهب مع الريح ولم يعد. أما لو حدثت معجزة وعاد حسيب فسيكون عندها عمره قد جاوز السبعين عاماً على وجه التقريب. وإذا كان حسيب قد اختفى في ظروف غامضة، فإن كل شخوص وأبطال هذه الحكاية قد قضوا نحبهم بمن فيهم عبود بشكل طبيعي، وأصبحوا في ذمة الله.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً