العدد 5129 - الأربعاء 21 سبتمبر 2016م الموافق 19 ذي الحجة 1437هـ

معرض «حلِّقْ بعيداً» للأميركي جونسون يستمر في التركيز على موضوعات العِرْق

يستمر حتى 22 أكتوبر المقبل...

...وجانب من أعمال معرضه الأخير
...وجانب من أعمال معرضه الأخير

الاشتغال والتحقق من بناء الهوية. ربما كانت تلك السمة والخط العريض الذي يقدِّم من خلاله المصوِّر الاجتماعي السياسي الأميركي من أصل إفريقي الفنان راشد جونسون أعماله تحت مظلة الفن المفاهيمي لمرحلة ما بعد السُود. ما حدث حدث. الاشتغال على تشخيص حاضر تلك الهوية، وأبعد من ذلك أيضاً: ما بعد تلك الهوية.

الناقدة روبرتا سميث، من صحيفة «نيويورك تايمز» رصدت يوم الخميس (15 سبتمبر/ أيلول 2016)، جانباً من معرضه الذي حمل عنوان «حلِّقْ بعيداً»، والذي سيظل مفتوحاً أمام الجمهور حتى 22 أكتوبر/ تشرين الأول في غاليري هاوزر وويرث. في المعرض نفسه، يستمر جونسون في التركيز على موضوعات العِرق، بعيداً عن الابتذال والسطحية، ضمن فضاءات الصورة والأعمال التركيبية، وتنوُّع في المواد الخام.

ثمة استعادة لجانب من كتابة سابقة تناولت أعمال جونسون، وتحديداً معرضه الشخصي الأول والذي حمل عنوان «رجال قلقون»، الذي أقيم في متحف الفن المعاصر في شيكاغو، بمناسبة الذكرى الرابعة عشرة على انطلاقته الفنية. في المعرض المذكور ثمة أعمال تمَّت بشكل حاذق ضمن مجموعة واسعة من الوسائط، التصوير، الرسم، النحت، وأشرطة الفيديو. وتستحتضر تلك الأعمال جانباً من طفولته في أسلوب وصفه بأنه «اختطاف الأليف»، في توظيف يعمد إليه الفنان بتحويل المواد اليومية كالنباتات، الكتب ألبومات التسجيل، الصور، وحتى زبدة الشيا، وهي عبارة عن دهن ذي لون عاجي يُستخرج من جوزة شجرة الشيا الإفريقية عن طريق الكسر والغليان والخلط. تُستعمل بشكل كبير في مُستحضرات التجميل والترطيب والمراهم. وشجرة الشيا أو الكاريتي تنبت فقط في غرب إفريقيا، وتنتج نوعاً من البذور أو المكسرات تصنع منه نساء إفريقيا زبدة تستعمل عندهن منذ آلاف السنين في ترطيب الجسم. في المعرض نفسه، وظَّف جونسون الصابون لتعميق وتعبئة الناحية المفاهيمية، واستدراج الإقناع البصري، ذلك الذي يتحدّى الطرق الراسخة في النظر إلى تجربة السُود، ومحاولة تأكيد تعدُّدها.

حتى في معرضه الحالي «حلِّقْ بعيداً» يستكشف جونسون مادِّية المواد التي يستخدمها في أعماله للتحقُّق من بناء الهوية؛ سواء في الجانب البصري أو المفاهيمي، بممارسة غارقة في التجربة الفردية، في الوقت الذي يقوم فيه باستدعاء المرجعيات الثقافية المشتركة. مثل ذلك الاشتغال ينطلق من مساءلة واستجواب المرجعيات التي ينتمي إليها، وإن بأساليب وتوظيفات لا يمكن القبض عليها بسهولة. هنا أهم ما جاء في تقرير روبرتا سميث.

السردية الفضفاضة

معرض راشد جونسون المُثير للإعجاب والذي حمل اسم «حلِّقْ بعيدا» في غاليري هاوزر وويرث، تتكشَّف معالجاته وموضوعاته بامتداد أربعة فضاءات، يحتوي كل منها على أعمال مختلفة جداً من الرسم والنحت أو الأعمال التركيبية. وتشكِّل سردية شبه مرتبطة بشكل فضفاض بسبب من تكرارها، فهي في كثير من الأحيان لها سِمَتها وامتدادها الإفريقي، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال المُواد والزَّخارف؛ حيث موضوعات العِرْق هي الشغل الشاغل، وتأخذ مجال توسُّعها من خلال الإشارة إلى التاريخ، الديكور، والهوية الشخصية والفنية.

ففي الوقت الذي يُبالغ فيه العديد من الفنانين حين يُمنحون زمام الأمور في أي صالة عرض كالتي تحضر فيها الأعمال التي يتناولها التقرير، والتي تقرب مساحتها من 10 آلاف قدم مربعة، يقترب جونسون من التحدِّي بحكمة (تحدِّي المداخل والأساليب والخامات التي يقدِّم بها موضوعات الهوية) فقد تجلَّت مواهبه العديدة، من خلال تقديم أعمال مُختلفة عن العروض الخاصة التي قدَّمها أولئك الفنانون - وبالنسبة إلى الجزء الأكبر من تلك الأعمال، تبرز محافظة جونسون على ذلك النطاق من الأعمال ضمن فضاء المفاهيمية التي تحكم أعماله وبشكل حميم. أعماله تظل مفاهيمية في نواحٍ كثيرة، لكنها تظل محلِّقة بمواد قوية (بالعمق الذي تقدِّمه) وبشكل حذِق وفي أي وسط وُجدت فيه. المعرض الأول من بين تقسيم الأعمال، هو الوحيد الذي تتجلَّى فيه الحواف مُتضخمة، لكنه يضع الزوار، وخصوصاً البِيض منهم، في حال تأهُّب، وكلما زاد الوقت الذي تقضي وقتك فيه أكثر ستخرج منه بالكثير أيضاً. يضم المعرض ست لوحات كبيرة، كل منها عبارة عن 36 لوحة سوداء، وجوه تعبيرية في تعريشة كبيرة. وبدلاً من أن تكون مرسومة على قماش، تم تطويع الوجوه لتبدوَ كما لو أنها كبيرة... قلم تلوين كبير أسود وناعم على بلاط من السيراميك الأبيض، ذلك الذي تعبق به المطابخ الغربية؛ وخصوصاً الحمَّامات. مثل هذا المدى لا لبْس فيه - قذارة مقابل نقاء - ولكنها واحدة من التناقضات التي يُمكنك أن تلاحظها، تتمثل في أن قلم التلوين هو في الحقيقة خليط من الشمع والصابون الأسود. إن محاولة القيام بغوغلة (استخدام شبكة الانترنت للبحث عن طريق محرك البحث الشهير غوغل) تكشف التعريف الغالب عليه بتسميته: الصابون الإفريقي الأسود، والمعروف عنه خصائصه العلاجية التي يحتويها؛ حيث تمَّت صناعته للمرة الأولى في غانا).

الوجوه المهترئة

تبدو الأعمال وكأنها رُسمت على عَجل، كتلك العلامات التي تحملها الرسوم على الجدران، مع مَيل في الأفواه ولوْلبة في العيون، الوجوه المُهترئة أصابها البِلى تماماً كما هو الحال مع الصور في الكتاب السنوي، أو ربما مثل الرجال في عنابر الزنازين. إنها تستحضر إلى الذهن عمل كل من جان ميشال باسكيات، ديوبوفيت وغاري سيمونز، ولكن الأعمال تلك تُحيط بنا - أساساً - في ساحة مليئة بالمتفرِّجين الغاضبين أو الخائفين. كل لوحة من لوحات جونسون حملت عنوان «غير معنونة حرصاً على الجمهور».

تجدر الإشارة هنا إلى أن جان - ميشال باسكيات، ولد في بروكلين بولاية نيويورك العام 1960 لأم من أصل بروتريكي وأب من هايتي؛ ما أدَّى لإتقانه لغات عديدة: الإنجليزية والفرنسية والإسبانية. أصبح عضواً مبتدئاً في متحف بروكلين للفنون في سن السادسة. بدأ مشواره الفني في مطلع السبعينيات مع ازدهار فن الجرافيتي في نيويورك، مع صديقه الفنان آل دياز، حيث قاما بالرسم على جدران منهاتن، وعُرفا بعلامتهما المميزة «SAMO»، وهي اختصار لـ «نفس الهراء القديم». عُرف اتجاه الاثنين بمناهضته للدِّين والسياسة، واتضح ذلك في صبغة أعمالهما.

مع حلول العام 1982، حظي باسكيات بنجومية كبيرة، وتزامن ذلك مع مجيء الحركة «التعبيرية الحديثة» الألمانية إلى نيويورك والتي تطابقت مع أسلوب باسكيات؛ ما مهَّد إلى تعاون الجانبين بشكل كبير في أعمال فنية مشتركة. وربما أكثر ما يمكن ملاحظته على الأعمال تلك، سمة الاحتجاج على هيمنة مدْرستيْ المفاهيمية والمينيماليزم على الساحة الفنية وابتعاد إنتاجهم عن الأشكال التقليدية للفن كالرسم والنحت، في حين أن التعبيرية الحديثة عادت بشكل ما إلى إنتاج اللوحات الفنية ورسم الجسد البشري. وفيما يشبه التصنيف، من خلال مقالة في مجلة «نيويورك تايمز» نشرت العام 1985، قالت عنه بأنه «أكثر الفنانين الأميركيين الشباب إثارة للاهتمام في الثمانينيات». أنهى باسكيات حياته في وقت مبكِّر بعد أن تعاطى جرعة زائدة من المخدرات؛ ما أدى إلى وفاته في العام 1988 عن عمر ناهز الـ 27 عاماً.

يشار إلى أن حركة «المينيماليزم» أميركية الأصل، وتقوم فلسفتها وأداؤها على اعتماد البساطة، باعتماد الحد الأدنى من الجُمل الموسيقية، وتكرار الجُمل بصورة مفتوحة. ويعتبر كل من ستيف رانج وفيليب غلاس وجون آدم المؤسسين للحركة.

الوجوه المُشرَّطة

وعودة إلى معرض جونسون فقط «القِ نظرة عن كثب وسترى بأن الوجوه مُشرَّطة مع تكرار الخطوط التي تأخذ شكلاً فضفاضاً، وفي كثير من الأحيان ستقع عينك على التعريشات المائلة، كما لو أن الفنان نفسه وجدها لا تُحتمل. وهذه نقطة أخرى عن الفن الذي يقدِّمه جونسون: هو أحيانا وفي طريقه لصناعة الفن يمشي على خيط رفيع... خيط من الغضب... يصنعه بشيء من قبيل التخريب... الإبداع والتدمير. (كأن تلك هي مكوِّناته)

المعرض الآخر هو أصغر بكثير؛ إذ يحتوي على ثلاثة مُركَّبات، من بينها لوحات معقدة وارتجالية، كل منها حملت عنوان «ملصق شرود غير معنون». في شكل ما، يعمد جونسون إلى استحضار الملصقات الكبيرة، والصور، وأشكال الماس، على هيئة أشجار النخيل والنباتات الاستوائية، بامتداد مساحات شاسعة ملوَّنة من بلاط السيراميك. في جانب منها حذف لأجزاء كبيرة من كل الأعمال تلك؛ إذ تبدو غير مكتملة ومصابة بالنقصان، فيما يُبدع ويقترح أشكالاً من الأقعنة والأغطية التي كانت تستخدمها المنظمة العنصرية المعادية للسامية والكاثوليكية: كو كلوكس كلان.

في التلوين واستخدام التصوير الفوتوغرافي، تمثل قطع اللوحات مساراً جديداً لجونسون، بتلك التوظيفات الجديدة حيث يجمع فيها جوانب من أعمال ريتشارد برينس وجوليان شنابل، وهي مشغولة بإحساسه وتمريره لحالات مُلحَّة. حتى الآن، تبدو بعض اللوحات مشوَّشة قليلاً، ولكنها قد تكون جزءاً من التوجُّه الذي تتخذه موضوعات اللوحات. ما يبدو على هذا الجزء من المعرض أن الغموض كما لو أنه تكتيك متكرِّر: الهروب قد يشير إلى فرار باتجاه عطلة استجمام في الجنة، أو التهرُّب من تجَّار العبيد الذين مزقوا الأفارقة وسلخوهم عن الجنة التي كانوا يسكنونها فعلاً.

إضاءة على العتمة

ولد جونسون في العام 1977. يتركَّز عمله في إنتاج الفن المفاهيمي لمرحلة ما بعد السُود. تلقَّى أول اهتمام من قبل النقاد حين تم تضمين نماذج من أعماله في معرض «أسلوب حرّ»، برعاية ثيلما غولدن في مرسم بمنطقة هارلم العام 2001، وكان وقتها في الرابعة والعشرين من عمره.

درس في كلية كولومبيا بشيكاغو، ومدرسة الفن في المدينة نفسها. تم عرض أعماله في جميع أنحاء العالم، وتحتفظ بعض المتاحف الفنية العالمية الرائدة بعدد من أعماله.

بالإضافة إلى التصوير، حيث بدأ جونسون، يعرض أعمالاً صوتية (معظمها من الموسيقى)، الفيديو وفن النحت. عُرف بتوجُّهه نحو النتاجات الفنية غير العادية، وكذلك الأساليب التي يتبعها. كما عُرف بجمعه علوماً ومعارف مختلفة ترتبط بتاريخ السُود، بحيث تطغى المواد الموظَّفة في أعماله، لتبدو مُستقلَّة في بنية العمل. وصل إلى الترشُّح النهائي لجائزة «هوغو بوس» في العام 2012.

عُرضت أعماله في: معهد الفنون بشيكاغو. متحف ويتني للفن الأميركي بنيويورك؛ معهد ديترويت للفنون. مركز ووكر للفن بمينيابوليس. متحف كوركوران للفنون بالعاصمة (واشنطن)، معهد التصوير المعاصر بنيويورك؛ متحف بروكلين للفنون بنيويورك؛ ومتحف الفن المعاصر في شيكاغو.

«ابتسامة»... مشهد تركيبي
«ابتسامة»... مشهد تركيبي
راشد جونسون
راشد جونسون




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً