العدد 5131 - الجمعة 23 سبتمبر 2016م الموافق 21 ذي الحجة 1437هـ

الأسود والأبيض: أنساق التعالي والانتقاص

«تمثيلات الآخر...» لنادر كاظم...

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

ما المشاعر التي تنتابنا حين نقابل إنسانًا ذا بشرة سوداء؟ هل هي مشاعر ذات دلالات إيجابية أم سلبية أم محايدة؟ وإذا كانت هذه المشاعر سلبية فكيف تشكّلت؟ ألا تستمد هذه المشاعر قوّتها من الأنساق الثقافية القابعة في مخيّلتنا؟ ما جذور هذه الأنساق؟ ما مدى إسهامها في تأجيج التكاره بين البشر؟ وكيف يجب أن نتعامل مع تمثّلاتها وتمثيلاتها؟

حافرًا في أعماق المعرفة، متدرّعًا بأحدث أدوات الغوص في غياهب المناطق المعتمة في الثقافة العربية بمرجعيّاتها النصوصية الكبرى/ المهيمنة أو المهمّشة يسيح نادر كاظم في كتابه «تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيّل العربي الوسيط» الصّادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت/ الطبعة الأولى العام 2004م والذي يقع في بابين وأربعة فصول، بالإضافة إلى مقدّمة وخاتمة فيصحب قارئه في رحلة ثقافية استقصائيّة جادّة وممتعة للبحث والفحص عن جذور الأنساق الثقافيّة ـ الظاهرة منها والمضمرة ـ التي تضافرت لتكوين صورة الأسود في ذهنيّة المتلقي العربي وتمثّلات مخياله له، وآليّات تعبير هذا المتخيّل عن ذاته فيما أنتجته النصوص العربية بمختلف أجناسها الشعريّة والسرديّة، وكيفيّة تسرّب محمولاتها الرؤيوية ودلالاتها القيمية عبر هذه الوسائط الثقافيّة إلى المتلقّي المعاصر الذي يعمل بصورة واعية أو غير واعية على بثها ونقلها إلى المتلقي الآخر في دائرة متكاملة من التواصلية والتفاعلية غير المنتهية التي تكرّس النظرة السلبيّة إلى (الأسود) وتخلق منه هوية مغايرة/ آخر يضاف إلى الهويّات الأخرى المتناسلة من غير كابح يجمحها.

ينطلق كاظم في دراسته تأسيسًا على أن الثقافة العربية تعاملت مع الأسود وفق آليتين متعارضتين يسميهما آليتي الجذب والطرد، حيث تعمل الثقافة في الآلية الأولى على جذب السودان واحتضانهم، بينما تعمل الثانية على طردهم ونبذهم، وفي الآلية الأولى تبدو الثقافة في قمة تسامحها وقبولها للآخر، أما في الآلية الثانية فتظهر هذه الثقافة منغلقة، عنصريّة، نابذة.

هذه العلاقة الملتبسة للثقافة العربية كانت المحفّز للباحث ليبدأ عمله في تفكيك هذا الالتباس وتفكيكه، وكشف اشتباكاته.

وقد اتخذ الباحث من (طريقة) النقد الثقافي وسيلة للبحث في هذه القضية الشائكة، ونقول طريقة لأننا غير متيقنين من كون النقد الثقافي منهجًا علميّا قارًّا عند أصحاب الاختصاص، على رغم الوجاهة الظاهريّة في العلّة أو العلل التي حدَتْ بالمنتصرين لهذا النوع من التعاطي الثقافي في البحث كونهم يؤمنون بضرورة تجاوز الأجناس الأدبية في تمييزها الحاد والتبسيطي بين حقول المعرفة المختلفة وتجاوز الجمالي/ المحدود إلى الثقافي/ الممتد والذي يستثمر جميع الأجناس على أساس أن «جميع هذه النصوص تشترك في كونها حاملة لأنساق الأمة ومتخيلاتها الثقافية، فهي تعبر عن هذه الأنساق والمتخيلات، وتسهم كذلك في تشكيل هذه الأنساق والمتخيّلات» (ص19).

وترتكز أطروحة الكتاب على ثلاثة مفاهيم أساسية: «التمثيل، المتخيّل، الآخر»، وعلى رغم حداثة هذه المفاهيم وصعوبة تعريفها، إلا أن الباحث استطاع أن يقدم شرحًا جيدًا لها مستعينا بمعرفته العريضة بأحدث ما توصلت إليه الأسماء الكبيرة في العلوم الإنسانية والأنثروبولوجية والألسنية والذي يعمد إلى حشد أسمائهم في دراسته بصورة مكثّفة.

وتكمن أهمية البحث في فرادته، وتناوله لموضوع جديد بما يجعل من الكتاب قيمة إضافية للمكتبة العربية، وكم كان جميلاً لو أبان الباحث في مقدّمة كتابه أو أشار إلى الدراسات السابقة التي تناولت الموضوع أو أشارت إليه على الأقل لأن الدراسة تخلو من كل ذلك.

وتوضيحًا للغاية من البحث موضوع الدراسة يقول الباحث: «إننا مطالبون بالوعي بماضويّة هذا الخطاب وتمثيلاته، ومطالبون كذلك بالوقوف في وجه تلك المحاولات التي تسعى من أجل استثارة هذا المتخيّل واستحضاره لأغراض أيدلوجية دفينة، وبطريقة تغذي الخلاف والشقاق بين الهويات والثقافات». (ص 553).

ويتجلّى جهد الباحث في استقصائه الأفقي والعمودي لكل ما يمكن أن يكون مفيدًا لبحثه، كما يتبدّى ـ كذلك ـ في اختياره الدقيق لعيّنات البحث، فعلى مستوى البحث التاريخي يركّز الباحث على ثالوث أبناء نوح (ع): «سام/ حام/ يافث»، هذا الثالوث الذي استنتج منه الأولون أفضليّة أبناء جنس بشري على آخر، حيث فضلوا «سام» وأبناءه، وازدروا «حام» وذرّيته، كما تعاملوا مع «يافث» والأجيال التي تحدّرت منه بشكل حيادي.

وبالإضافة إلى العناية الفائقة في اختيار العيّنات الممثلة للبحث التاريخي، فإن تعامل الباحث مع العيّنات التاريخية المنتقاة يتم عبر الفهم الجديد للتاريخ، والذي يتعامل معه بوصفه نصًّا مبنيًّا على «التحبيك والتأويل»، حيث يسردن المؤرخ تاريخه، كما يصبح التاريخ ذا أبعاد رمزية ومتخيّلة، ولابد للمتعامل معه عندئذ أن يلجأ للتأويل.

أما على مستوى التمثيل السردي فيختار الباحث تناول «الأسود» من خلال دراسة «سيرة بني هلال»، وسيرة «الأميرة ذات الهمّة»، حيث يبدو اللون الأسود مركزيًّا في بنية هذه السرديات ودلالاتها.

وفي التمثيل الشعري يتناول الباحث الشاعر الجاهلي «عنترة بن شدّاد» الذي يحضر «الأسود» في أشعاره حضورًا طاغيًا، ويلاحظ الباحث توظيفه للفروسيّة والشجاعة لتعويض شعوره بالنقص والازدراء.

كما يتناول الدارس المتنبي في علاقته مع كافور الإخشيدي، إذ يمدح المتنبي كافورًا بإضفاء الصفات الإيجابية على اللون الأسود، ثم يعود فيهجو ممدوحه على أساس هذا اللون، وما استقر في خزّان المتخيّل العربي من الصفات الانتقاصية له.

وكذلك فعل الباحث عندما تحدّث عن الشعراء: ابن الرومي، سحيم بن الحسحاس، أبودلامة، مع ملاحظة أن عيّنة التمثيل قد تجنح أحيانًا إلى الكثرة الزائدة عن الحاجة.

ولعل السؤال الأكثر أهمية الذي يطرح في هذا السياق: هل أبناء الثقافة العربية والإسلامية المعاصرين يتعاملون حقًّا أو لديهم القابليّة للتعامل مع (السّود) تعاملاً عنصريّا نتيجة ما تسرّب إلى ثقافتهم من نصوص ازدرائية لأصحاب البشرة السوداء؟ أو ليست النصوص التي يسميها أصحاب النقد الثقافي بالنصوص المهيمنة من قرآن وسنة كفيلة بتعطيل فاعلية هذه النصوص وتغذيتها لخطابات أو أفعال الكراهيات المستقبلية مع السودان؟

ثم ألم يكن المتلقي العربي حتى في العصور الوسطى ـ زمن التلقي الأول والمباشر أو القريب من زمن النصوص ـ يتعامل مع هذه النصوص السردية والشعرية على أنها نصوص للقراءة واللذة الأدبيّة فحسب، أي أنه يقرأ هذه النصوص مع وعيه بمضمراتها السلبية؟

وقد يردُّ آخر مجادلاً: فلماذا إذًن ترفض الفتاة ذات البشرة البيضاء الزواج من شاب أسود؟!

ولماذا الإصرار على وصف الأسود بالعبد، أولا يضمر هذا الوصف دلالة مناقضة تتمثّل في السيادة والرفعة والسمو للأبيض؟!

نادر كاظم
نادر كاظم




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 2:55 ص

      دراسة تحليلية ممتازة يا استاذ جعفر

    • زائر 3 | 10:55 ص

      كل التوفيق

    • زائر 1 | 7:11 م

      Jaafar
      نفتخر بهذه (القامات الأدبية،الباحثة،،الإجتماعية،المفكرة) حيث أن الأخ الدكتور (نادر كاظم) قد يكون له الشأن،ومتابعة أبحاثه (عربياً)،أكبر وأكثر منها (محلياً)،بمعنى أنه قد يعاني (الغربة) هاهنا،كون طاقاته الخلاقة لم يستوعبها المجتمع لدينا.

    • زائر 2 زائر 1 | 7:44 ص

      مناقشة جادة تستحق القراءة

اقرأ ايضاً