العدد 5 - الثلثاء 10 سبتمبر 2002م الموافق 03 رجب 1423هـ

ماذا فعلت واشنطن بعد الضربة الاستراتيجية؟

عام فقط على 11 سبتمبر/ أيلول، وتبدّل الوجه الأميركي!

إلياس حنا comments [at] alwasatnews.com

كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد

سنة تقريباً على حوادث 11 سبتمبر/أيلول، اليوم الذي غير التاريخ. يقول لينين بما معناه: «هناك عقود لا تصنع تاريخاً. وهناك عظات قد تصنع تاريخاً كاملاً». مرّت سنة على الحرب على الارهاب. سقط نظام طالبان، توسعت أميركا في العالم، سقطت العملية السلمية في الشرق الأوسط، وها هي أميركا تعد العدّة للحرب على العراق. لم يقع أي حادث إرهابي مهم على اميركا أو مصالحها منذ 11 سبتمبر. وهذا يعني أن الحرب على «تنظيم القاعدة» كان الكثير من جوانبها ناجحاً، خصوصاً في شقّها الاستخباراتي. جُمّدت مئات الملايين من الدولارات، كما اعتقل الكثير من أنصار «القاعدة» خصوصاً من الجيل الثاني. إن أكثر ما تتجنّبه القوى العظمى هو وقوع المفاجآت الاستراتيجية الكبرى. تتمثل المفاجأة الاستراتيجية، بوقوع حدث كبير لم يُحسب له حساب. تكون نتيجة هذه المفاجأة كارثيّة على صورة الدولة العظمى، وذلك لأنه، مهما فعلت هذه الدولة لنزع وصمة العار، سوف تستمر الآثار ماثلة في الذاكرة الجماعيّة. بعد المفاجأة الاستراتيجيّة، لا تعود الدولة العظمى كما كانت قبل الحدث. فالصدمة وقعت ولابد من أخذها في الاعتبار. بعد المفاجأة، لا تعود الأمة كما كانت فتصاب بالذعر، وتعمّ الفوضى، الأمر الذي يتطلب قيادة شجاعة قادرة. تتأصّل وتندرج المفاجأة بعد حدوثها في الخطاب السياسي للأمة، وتصبح معياراً لكل الاستراتيجيّات اللاحقة. قد تكون المفاجأة قاتلة للأمة، وقد تكون محدودة التأثير. لكن الأكيد أن نجاح المفاجأة هو على حساب هيبة من تلّقاها. تطيح المفاجأة برؤوس كبيرة، وتعقد اللجان لدراسة اسباب الفشل، وأخذ العبر. تعدد الدراسات، التي تعالج موضوع الصدمة، المراحل التي يمرّ بها من تلّقاها، أمّة كانت أو فرداً على الشكل الآتي: 1- مرحلة رفض ما حدث وعدم تصديقه. 2- مرحلة الثورة على ما حدث ولعنه. 3- مرحلة القبول بما حدث والمصالحة مع الواقع الجديد ووعيه. 4- مرحلة الوعد بالخروج منه لرسم استراتيجية جديدة. ويشدّد علماء الاجتماع أنه إذا ما بقي الفرد، أو الأمة، أكثر من اللازم في أية مرحلة من مراحل الخروج من الصدمة والتأخر بالانتقال بسرعة ومن دون تسرع إلى ما بعدها، فإنه يكتب عليه الجمود في الزمن ومن ثم الافول والاندثار. لا يمكن للأمم الواعية رفض الصدمة، لا بل عليها قبولها، وعليها الاستفادة منها والانتقال إلى مرحلة الإصلاح. شكّلت صدمة حرب يونيو/ حزيران 1967م كارثة على العرب، لكن عملية الخروج منها كانت عملية قيصرية، حتى أنه يمكننا القول إن العرب لايزالون في المرحلة الثانية. كذلك الأمر شكّلت حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973م صدمة ومفاجأة استراتيجية لإسرائيل لاتزال آثارها ماثلة في الذاكرة الجماعية، واستطاعت أن تخرج منها بسرعة. في هذا الإطار يمكننا القول إن الخروج من الصدمة، هو أسهل على الدول الكبرى منه على الدول الصغرى. فالدول الصغرى ليست مؤهلة ولا يمكنها تحمّل الخسائر الكبرى. لا تشذّ الولايات المتحدة عن هذا الأمر فهي من تلقّى الصدمة، وهي التي سوف تمرّ حتماً بالمراحل التي تحدّثنا عنها. لكن الفريد في وضع أميركا يتمثّل في انتقالها من مرحلة إلى أخرى بسرعة. فهي وبعد الضربة، لم تسقط نهائياً. ويعود هذا الأمر إلى الليونة واللامركزية العالية في المجتمع الأميركي. فإذا ما ضُربت نيويورك، فإن لوس إنجليس تأخذ مكانها. فالذي حدث هو العكس تقريباً، إذ ان الإدارة استطاعت أن تستوعب الضربة وتستعد للرد عليها. وقد يعود سبب عدم سقوط أميركا بعد الضربة إلى أن العدو هو ليس بحجم الاتحاد السوفياتي، والضربة لم تكن شاملة على كل مراكز ثقل «العم سام»، على رغم أنها استهدفت رموز القوة الأميركية، الاقتصادية منها والعسكرية. الأكيد أنه وبعد الضربة كان لابد من التغيير والاصلاح في كل المجالات، السياسية منها والأمنية والعسكرية. فالتغيير ضروري بعد وقوع الكوارث والهزيمة العسكرية ونادراً بعد النصر، لأنه يقال: «إن المنتصر مفقود، أما الخاسر فإنه يعيد حساباته». كان لابد أيضاً من تغيير الخطاب السياسي بشكل يتجانس مع المتغيرات. وكان لابد من السعي إلى استرداد الصورة الردعية بعد أن فُقدت في 11 سبتمبر. كيف تطوّرت الاستراتيجية الأميركية؟ بعد الضربة، اطلق الرئيس جورج بوش عقيدته المتعلقة بالحرب على الارهاب وقامت على: «ضرب كل من يؤوي، يساعد ويموّل الارهاب». شكّل هذا الشعار الرؤيا الاستراتيجية العامة التي على أساسها سوف تُخاض الحروب العسكرية، وعلى أساسها سيتم التعامل مع الدول، الكبيرة منها والصغيرة. فقامت الاستراتيجية على تنفيذ خطوات محلية أبرزها: 1- استيعاب الضربة ومعرفة أبعادها وأهدافها بهدف تحضير الرد المناسب عليها في الزمان والمكان. 2- تحصين الوضع الداخلي ضد أية ضربة محتملة جديدة وإنشاء المؤسسات اللازمة للاهتمام بالأمن الداخلي. فكان مشروع وزارة الداخلية، وإنشاء القيادة الشمالية إلى جانب القيادات الأخرى. كذلك أصدر الرئيس بوش كل التشريعات الجديدة التي تتعامل مع الأمن الداخلي. فكان قانون «الباتريوت»، كذلك «قانون حماية الحدود» الأمر الذي جعل المحللين يطلقون على أميركا الدولة - القلعة، وجعل بعض القوى الداخلية تعترض على المس بالحريات. هذا عدا عن جعل مجلس الأمن يصدر قرارات تدعم استراتيجية بوش كالقرار 1373. بعد هذه الترتيبات كان لابد من عرض للقوة الأميركية على المسرح العالمي بهدف استرداد الهيبة والقدوة الردعية. وكان من الضروري في هذه المرحلة أن تحقّق أميركا نصراً حاسماً وبقوتها الذاتية ومن دون مساعدة الحلفاء. وشكّلت الحرب على أفغانستان الترجمة العملية لهذه المرحلة. بعد إعلان عقيدته، أصبح لابد من مرحلة جديدة لمأسسة هذه العقيدة، فكان خطاب «حال الأمة» وأطلق عليه حينها خطاب «حال العالم». في هذا الخطاب انتقل بوش من الرؤية العامة إلى الحالات الخاصة. فكان شعاره الجديد تحديد دول «محور الشر» ويضم برأيه إيران، العراق وكوريا الشمالية. اتهمت هذه الدولة بأنها تسعى إلى أسلحة الدمار الشامل، كما أنها تنشر التكنولوجيا المتعلقة بهذه الأسلحة. وهي متهمة أيضا بأنها «تدعم» الارهاب واحتلت إيران المكان الأول. ويعود سبب هذا الشعار إلى الخوف الأميركي الشديد من حصول هجوم ثان على الأرض الأميركية وهذه المرة بأسلحة دمار شامل، وقد تكون على مثال القنبلة القذرة (مؤلفة من مواد مشعة + مواد تفجير تقليدية). فإذا ما وقع الهجوم الثاني، فإن أميركا سوف تنهار على الصعيدين الداخلي والخارجي. على الصعيد الداخلي سوف تتفكك بنية المجتمع الأميركي، أما على الصعيد الخارجي، فإن دولاً كثيرة قد تتجرأ على تحدي «العم سام» وعلى رأسها الصين لنزع الزعامة العالمية من أميركا. تزامن مع خطاب «حال الأمة» نشر المراجعة النووية من قبل البنتاغون التي تناولت تعديلات جذرية في الاستراتيجية الأميركية الكبرى. قامت هذه المراجعة على مثلث جديد مؤلف من: الاعتماد على ضربات هجومية (تقليدية ونووية)، الاعتماد على الدفاع (السلبي منه والإيجابي) وتحديث البنى التحتية للبنتاغون بشكل أن تؤمن امكانات جديدة تستطيع معالجة المخاطر الطارئة. وكل هذا مرتبط بشبكة متقدمة من القيادة والسيطرة والاتصالات. وأعقبت هذه المراجعة إلغاء معاهدة (الآي. بي. ام) مع روسيا من جانب أميركا الأمر الذي يسمح لها بإجراء تجارب على الصواريخ المضادة للصواريخ. بعد خطاب «حال الأمة» الذي ألقاه بوش في «ويست بوينت» أطلقت الخطوط العريضة للاستراتيجية المستقبلية التي ستعتمدها أميركا لدرء خطر الارهاب. فهو أعلن موت المفاهيم القديمة التي قامت على الردع والاحتواء. فأعداء الأمس أصبحوا أصدقاء اليوم، والصورة الجيوسياسية تبدّلت جذرياً. كما أن المعاهدات التي كانت ترعى النظام العالمي السابق، لم تعد قائمة حتى أنها لم تعد صالحة للوقت الحالي. باختصار، يمكن اعتبار خطاب «ويست بوينت»، وما تبعه من تصريحات وكأنها العملية التأسيسية العمودية العملية لعقيدة بوش الابن. كيف؟ وردت في الخطاب الأمور الآتية: 1- تحديد دور الولايات المتحدة الجديد. فهي راعية للسلم العالمي، وسوف تفرض الوضوح الأخلاقي بين الخير والشر. وسوف تقيم علاقات تعاون ممتازة مع القوى الكبرى. 2- سوف تعتمد أميركا الضربات الوقائية منفردة في الزمان والمكان اللذين تراهما مناسبين. 3- اعتبر بوش أن العقلانية غير متوافرة لدى العدو الجديد، لذلك لا تنفع معه الاستراتيجيات القديمة، خصوصاً الردع. فكيف يمكن ردع من هو مستعد للتضحية بنفسه؟ 4- استعداد أميركا لمساعدة أي دولة في محاربة هذا الارهاب. بعد خطاب بوش في «وست بوينت» صدر عن مساعد وزير الدفاع للتخطيط جورج بولتن اضافات على دول «محور الشر» و تناول هذا الملحق كلا من سورية، وكوبا. كيف أصبحت الصورة حتى الآن؟ باختصار تتراوح الاستراتيجية الأميركية الحالية ما بين الدفاع السلبي الداخلي، والهجوم الوقائي الخارجي. الدفاع السلبي، بعد بناء الدولة - القلعة في الداخلي الأميركي انتقل إلى الهجوم الوقائي الذي أصبح في مرحلته الثانية بعد الانتهاء من الحرب على أفغانستان. على ماذا تقوم المرحلة الثانية؟ لم نعد نسمع أي حديث أو أي تعليق أميركي عن وضع إمامة بن لادن. فهو لم يعد نقطة التركيز في الحرب على الارهاب. فأميركا تحاول نقل صورة الصراع من «حرب ضد عدو لا شكل ولا لون له»، إلى حرب ضد أمم/ دول معترف بها من ضمن النظام العالمي ومؤسساته. لماذا؟ لا يمكن لأميركا أن تحقق نصراً على الارهاب الجديد، لأنه لا يمكن قياس هذا النصر. ولا يمكن قهر العدو في معركة فاصلة تنتهي بمعاهدة يقر الخاسر فيها بهزيمته ضمن صيغة واضحة لوقف النار. فالعدو الجديد لا يريد قهر أميركا بل يريد تدميرها نهائياً. وهو مستعد للتضحية بنفسه، ولا تنفع معه مفاهيم الردع المتعارف عليها في قواميس الحرب والدبلوماسية. العدو الجديد ما هي صفات العدو الجديد وكيف يفترق عن العدو التقليدي؟ حسب الباحث فرنسوا برنار هيوغي، الفارق الأكبر بين الاثنين هو في اللاتماثل الذي يظهر في أبعاد عدة منها: - اللاتماثل في القوى، فالعلاقة هي بين قوي وضعيف. - اللاتماثل في القدرة المعلوماتية. أميركا تسيطر على المعلومات، لكن «القاعدة» استغلت ما تنتجه أميركا لتستعملها ضدها. - اللاتماثل في الوضع الشرعي. أميركا أمة - دولة، تنظيم «القاعدة» غير شرعي في المنظومة الدولية. - اللاتماثل في الحدود الجغرافية. أميركا لها حدود جغرافية. القاعدة، لا حدود لها، تريد أن تكون في كل مكان (60 بلداً)، وتضرب ساعة تشاء وكما تريد. - اللاتماثل في الأهداف. أميركا تريد استقراراً عالمياً تكون هي المسيطرة عليه. القاعدة تريد ضرب الوضع القائم. من هنا تريد أميركا في المراحل اللاحقة ترتيب العالم من ضمن منظومات أمنية اقليمية تلعب فيها الدولة - الأمة الدور الرئيسي انطلاقاً من المبدأ الذي اطلقه الرئيس بوش «من ليس معنا فهو ضدنا». ماذا عن المنظومات الاقليمية؟ انطلاقاً من أميركا الجنوبية، تحاول أميركا مساعدة الدول الصديقة لضرب واحتواء الارهاب. ها هي تساعد كولومبيا في حربها على الارهاب والمخدرات، وتحاول مساعدة البرازيل من خلال «صندوق النقد الدولي» كيلا تنهار هي ومحيطها. كذلك تحاول احتواء الرئيس الفنزويلي المعارض لسياستها. في الشرق الأقصى، تحاول أميركا احتواء الصين، من خلال دعم تايوان وكوريا الجنوبية. وهي حتماً سعت إلى ضرب «تجمع شانغهاي» الذي تلعب فيه الصين دوراً أساسيا. كذلك تحاول تركيع كوريا الشمالية. وهي تساعد الفلبين، وتثبت وجودها في سنغافورة. وقررت مساعدة كل من اندونيسيا وماليزيا. لنستنتج أنها تحاول تقسيم العالم الإسلامي واحتواء دولة في الوقت نفسه. وفي «الوسط الآسيوي» نلاحظ أن أميركا ومن خلال انتشارها في آسيا الوسطى، ومن خلال الاتفاقات الأمنية التي عقدتها مع الكثير من الدول هناك، أنها تسعى إلى إقامة دائمة لتمسك مصادر النفط وهي الأهم في العالم، ولتمسك بالمفاصل الاستراتيجية القريبة من الهند والصين وروسيا. وفيما خص أوروبا، فإن المثل الشائع في العالم الليبرالي هو أن «الديمقراطيات لا تقاتل بعضها بعضاً». وفيما خص الشرق الأوسط، فإنها ممسكة تماماً به من خلال وجودها العسكري، ومن خلال منظومتها الأمنية - السلمية التي حبكتها بالتعاون مع إسرائيل. لكن وفي ظل هذا الترتيب الأمني الاقليمي، نلاحظ استراتيجية تنفيذية جديدة مكملة لخطاب بوش وعقيدته (كون العقيدة تشكل الرؤيا العامة) يقوم على الآتي: «تكليف القوات الخاصة الأميركية بضرب تنظيم القاعدة أينما وجد، بعلم أو من دون علم الدول المعنية». إذا تعاونت هذه الدول، قد تستطيع المحافظة على سيادتها. وإذا لم تتعاون، فإن لأميركا الحق في انتهاك هذه السيادة، الأمر الذي يقودنا إلى مبدأ مبتكر في القاموس الدبلوماسي للعلاقات الدولية يقوم على مبدأ «السيادة المشروطة». وأخيراً تسعى أميركا إلى ضرب العراق، الدولة الوحيدة «العاصية» في المنظومة الاقليمية الشرق أوسطية. وكثر الحديث عن السيناريوهات المحتملة التي من الممكن أن تنفذها أميركا. لكننا نسأل، هل أن أميركا مجبرة على الابتكار للقضاء على نظام صدام حسين؟ بالطبع لا، الأمر الذي يذكرنا بما قاله هنري كيسنجر مرة عن الاستراتيجيات الأميركية عموماً: «لم تربح أميركا حروباً بسبب استراتيجيات متطورة، بل بسبب لوجستية ضخمة لا تنضب». حالياً تسيطر أميركا على العالم بكل أبعاده: الجو، البحر، البر والفضاء، فهل سيصعب عليها إيجاد سيناريو مناسب لبلد متواضع القوة نسبياً معها كالعراق؟ من هنا نلاحظ أن دور المعارضة العراقية الحالي ليس إلا واجهة لإيهام العراقيين والعرب أن التغيير هو عراقي بحت. ٭ كاتب لبناني، وعميد ركن في الجيش سابقاً.

العدد 5 - الثلثاء 10 سبتمبر 2002م الموافق 03 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً