العدد 5175 - الأحد 06 نوفمبر 2016م الموافق 06 صفر 1438هـ

ملفات الشِّعر حينما تفتح الجروح والأسئلة

غلاف العدد
غلاف العدد

المنامة - عبدالله زهير 

تحديث: 12 مايو 2017

في الملف الموسّع الذي فتحته مجلة «الفيصل» (عدد سبتمبر/ أيلول - أكتوبر/ تشرين الأول 2016)عن مآلات الشعر العربي الكثير من الأسئلة المعلقة والقليل من الجرأة والعمق في التحليل والتفكيك.الملف شارك فيه عدد من الشعراء والنقاد المهمين. لا جدال في ضرورة فتح هكذا ملفات تُعنى بالشعر وقضاياه المتشابكة، فهذا بحد ذاته أمر مرغوب ويبعث على تنشيط العقلية المأسورة في قالب اليأس، وتحليقها إلى فضاء مشحون بالعمل والأمل. لذا سيكون لزاماً علينا تشجيع الأقلام التي ترمي الأحجار (بصرف النظر عن مدى جسارتها النقدية) على بحر الوضع العربي الراكد، وخاصة في البعد الثقافيّ المتأزم، والذي تتداخل فيه الأبعاد كلها، الاجتماعية - السياسية والاقتصادية. على امتداد أكثر من ستين صفحة، مقالات لشعراء وناقدين وكُتَّاب (عشرون مقالاً/ استطلاعًا) من مختلف الجغرافيات العربية،على رغم أن الشعر العربي لا حدود جغرافية له، ولا يقتصر على حركات الشعر داخل الأقطار العربية. البعض تحسّر على هزيمة الشعر أمام إغراءات الهواتف الذكية وتقنيات التواصل الاجتماعي. كتب رئيس تحرير المجلة ماجد الحجيلان متعجباً: «لم نرصد قصيدة واحدة ترددها الجماهير...». ظني أنَّ الحجيلان في العمق مأخوذ بما يمكن أن أسميَه «المفاهيم السائدة حول الشعر»، والتي هي في الأغلب «أخطاء مفاهيمية شائعة» ومن خارج الأدوات الطبيعية للشعر. الأسئلة في مخيلتي عديدة: هل ترديد القصائد وشياعها بين الجماهير دليل على حيويّة الشعر لديها؟ وهل التقدم في الوسائل التقنية مسئول عن انحسار الشعر وقراءته؟ وهل كانت الأجيال الماضية (قبل ثلاثة عقود وأكثر) شغوفةً بشكل أفضل وأعمق من الأجيال الراهنة في كلّ ما يخص الشعر بمختلف اتجاهاته وتجلياته؟ بمعنى آخر، هل كان فهم القارئ لمسألة الشعر أكثر نضجاً مما عليه القارئ الآن، بصرف النظر عن مدى قدرته على حفظ النصوص؟ لسنا في وارد قياس نسبة حُفّاظ الشعر؛ إذ الصواب هو في الفهم العميق لا مجرد ترديد المحفوظات، كما هو الشأن في حفظ القرآن والأحاديث النبوية وتلقينهما عند شريحة واسعة من المتدينين القادرين على الحفظ بصورة آلية بحتة، والعاجزين عن اجتراح الفهم والتفكير المنفتحَيْن على الطفرات الهائلة في نظريات العلوم الإنسانية والاجتماعية، ناهيك عن آفاق تطبيقاتها.

مقال آخر لشاعر كبير مجايل وصديق لبدر شاكر السيّاب هو سعدي يوسف بعنوان «ديوان العرب... أمأهول هو الآن؟» في معرض الإجابة عمّا إذا كان ثمة سبيل إلى خارج النفق دعا إلى العودة إلى الشعر الجاهلي! قبل أن يعطي أسباباً لذلك بقوله: «لأن القصيدة الجاهلية متوافرة على ما يجعل النصّ شِعراً: اللغة المادية (استعمال الاسم الجامد لا المشتقّ، وانتفاء المصدَر، والإقلال من الفَضْلة). العلاقة مع الطبيعة. العلاقة مع «أنا» لا مع «نحن». بدائية الموسيقى الداخلية».

كثيرون استكانوا إلى الرؤية المتشائمة المتحسرة على انحسار الشعر ووقوعه في مأزق - كما أسماها البعض - إزاء الأجناس الأدبية المتنوعة الصاعدة على مستوييْ الانتشار والتلقيّ، بينما قلةٌ لم تكن منسجمةً مع هذه الطريقة السائدة في النظر إلى حالة الشعر عند مؤلفيه وقارئيه ونُقَّاده على حدٍّ سواء. الشاعر العراقي هاشم شفيق،على رغم موجات التذمر والتململ التي تجتاح حركة الشعر في اللحظة الراهنة، يبدو متخفّفًا من الكليشيهات والمفردات المنتشرة من قبيل: أزمة، انحسار/ تراجع المقروئيّة، فقدان الجماهيرية، ضمور، ضعف، موت/ مرض الشعر، هزيمة...ألخ. فهو على العكس من ذلك يرى أنَّ «الزمن العربيّ شِعريّ بامتياز...» يردف قائلاً: «لو رجعنا قليلاً إلى الوراء ورأينا حال الشعر وقارنّاه باليوم؛ لوجدنا الشعر في هذه الأزمنة أكثر انتشاراً من السابق، الشعر بدأ يصعد معراجاً جديداً مع التقنيات الحديثة والوسائط الجديدة للمجتمع الحديث، فالفيسبوك ساعد على انتشاره، على رغم تسميته بفن القّلة، كما جاء على لسان الشاعر الإسباني الكبير رامون خمينيث، وتُدُول من بعده، ووسّع من مدلوله الشاعر المكسيكي أكتافيو باث. الشعر لن يموت كما يشيع حُسّاده الذين توقفوا عند عتبة أسلوبية وتعبيرية وجمالية معيّنة، هو مثل أيِّ فنٍّ آخر، أصابه تطوّر جمالي ملحوظ، وأفاد هذا التطوّر من بقية الفنون الصديقة والمجاورة له، كالموسيقى والرسم والسرود عالية الفن والمُكنة. لقد تطوّر الشعر وشهد ثورات كثيرة، استهدفت الشكل والمحتوى وطرائق التعبير، وجاءت على كل تاريخه لتقدّمَه بحُلّة مختلفة».

ولربما لا يكون الشِعرُ حقيقيًّا إلا إذا تمثّل عصرَه ومجرياته. التطورات في الوسائل التقنية (من ضمنها وسائل إنتاج المعرفة وتلقّيها) من المفترض أنْ تكون عاملاً مشجّعاً على ارتقائه إلى مستوىً متفوّق بكثير على تلك التقنيات، أو على الأقل يليق بما توصلتْ إليه الآليات الحديثة في الفنون البشرية جميعها. وتعلمنا التجارب القديمة والحديثة أنَّ من يتخذْ موقفاً سلبياً وانطوائياً إزاء هذه التطورات المتسارعة في كل ساعة، يخسر أول ما يخسر قدرته على اجتراح الجديد والمؤثّر، ولن يستطيع أن يقنعَ ذاته بما يكتب، ناهيك عن إقناع الآخرين. عُزلة الشاعر في بُعدٍ من أبعادها ضرورية لاستبطان/ تأمل ذاته ومراكمة تجاربه من خلال قراءة العالم والطبيعة والنصوص. ولكنْ فليحذر من الانعزال عمّا يجري من ثورات متواصلة/ متناسلة في عوالم المعرفة. الانعزال هنا اكتفاء وانكفاء ونكوص إلى عصور ما قبل الحداثة. وتِبعاً لذلك، مقاومة فكرة التشبّث بالطرائق التقليدية على مستوييْ التلقيّ والإنتاج هي الطريقة الأنجع، إذا ما أردنا للمشهد الشِّعريّ أن يتجهَ نحو التغيير والتجديد الخلاقَيْن.

الشاعرة هدى الدغفق استطلعتْ آراء عدد من شعراء السعودية. الشاعر مسفر الغامدي عن حالات السيولة والتضخم والتشظيّ، والتي تعتري شِعر هذا العصر بشكل مبالغ فيه، ما يفضي إلى عجز النقد عن مجاراته وملاحقته، يقول: «لم يعدْ للشعر رموزه وتكتلاته وملاحقه ونقاده، بل أصبح متناثراً في كل مكان... النقد تعوّدَ في العقود السابقة على التعامل مع الكتل الصلبة (الجاهزة)، وليس في وسعه أن يتعامل مع النتف المتناثرة هنا وهناك...».

ثمة في الملف كثير من الأسئلة الجديدة عن الشعر في اللحظة الراهنة. إلا أنني أقترح الانطلاق بدئيًّا من التحولات الجذريّة منذ مجلتيْ «شعر» و «الآداب». ربما من الغريب حقًّا أن أغلب شعراء الأجيال الطالعة لم تعدْ تلتفتُ إلى تجربة مجلة «شعر» المكتنزة بالعمق والتثوير الشعريّيْن، على أقل تقدير إعادة قراءتها بصفتها أوّل مساحة تُكرِّس نفسها للشعر العربي الحديث وتشتغل على ترجمة الشعر الأجنبي المنطلق من أفق الحداثات الغربية، ومِن ثَّم الوقوف عند سؤال الحداثة ورُؤى الإبداع في نسيجها، تذوقاً ونقداً.

عبدالله زهير
عبدالله زهير




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً