العدد 5190 - الإثنين 21 نوفمبر 2016م الموافق 21 صفر 1438هـ

المشهد الليبيّ... إلى أين؟

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

رغم الانقسام السياسيّ وعدم الرضا الكليّ بين الأطراف المتنازعة في ليبيا العام الماضي، فقد مثّل اتفاق «الصخيرات» المغربية المُوقّع بين الفرقاء في ديسمبر/ كانون الأول 2015م شُعلة أمل انتظر الجميع إشعاعها مع تشكيل حكومة الوفاق الوطني المدعومة دوليّاً. غير أنّ رياح الربيع العربيّ في ليبيا، والتي باركتها معظم الأنظمة العربية والعالمية، لم تجر كما تشتهي إرادة الشعب الليبيّ المتضرّر الوحيد من التجاذبات الدولية وصراعها على مصالحها في ليبيا، والمتضرّر الأوّل كذلك من نخبته السياسية التي خاب ظنّه فيها.

تسير ليبيا نحو مستقبل مجهول لا يعلمه إلَّا من دبّره لها بليل بعد سقوط نظام الدكتاتور معمر القذافي؛ فلقد تشتّتت القيادة السياسيّة للبلاد بين ثلاث حكومات تدّعي كل منها الشرعية؛ حكومة مؤقتة منبثقة من انتخابات 2014 برئاسة «عبدالله الثني» تتخذ من مدينة شحات شرق ليبيا مقرّاً مؤقتاً لها فيما استقر البرلمان الذي يدعمها في مدينة طبرق على رغم أن المحكمة العليا التي توجد في طرابلس قد أعلنت حل ذلك البرلمان. وتنافسها في السلطة حكومتان في الغرب الليبيّ حكومة الإنقاذ برئاسة «خليفة الغويل» التي انبثقت عن المؤتمر الوطنيّ العام، وحكومة الوفاق الوطنيّ برئاسة «فائز السراج» والناشئة عن اتفاق الصخيرات وهي تحظى بدعم دوليّ.

وعلى رغم تقدّمها العسكري في القضاء على تنظيم الدولة بسرت بدعم جوي أميركيّ، عجزت حكومة السراج، منذ وصولها إلى طرابلس مارس/ آذار 2016، عن ممارسة صلاحياتها كما نص عليه اتفاق الصخيرات. وبالمقابل ظلت حكومة «الثني» وحكومة «الغويل» تؤديان أعمالهما. وقد أرجع بعض المحللين هذه الكيانات السياسية المتعددة في ليبيا إلى الخلاف المستمرّ بين التنظيمات المقاتلة على الميدان وبالخصوص بين التشكيلات الإسلامية من جهة، والقوى الليبرالية المدعومة من القبائل والتي تبحث عن بناء دولة مدنية معاصرة. وتسعى كل هذه الحكومات إلى بسط نفوذها وتغيير معادلات القوة بما يعزّز مصالحها، الأمر الذي يفتح ليبيا على المجهول.

وقد انجرّ عن هذه الحكومات المتعددة والحاكمة في الآن نفسه فساد مالي لا نظير له فقد ارتفع أعضاء وكلاء الوزارات في الحكومة الواحدة أحياناً إلى ما يربو عن مئة وكيل، ونظراً لازدواج المناصب يقع تثليث الرواتب وأحياناً تربيعها، بل وصل الأمر إلى أنّ الموظّف الواحد في الدولة يتقاضى أربعة أو خمسة رواتب من جهات مختلفة بسبب هذه الفوضى السياسية والتنازع على الحكم، ما أدّى إلى تفاقم عجز الموازنة من (43 في المئة) سنة 2014 إلى (75 في المئة) سنة 2015، وهو ما اضطر الحكومات إلى السحب من الاحتياط وخاصة بعد تراجع أسعار النفط وغلق الكثير من الموانئ النفطية.

كما لعب ضعف الحكومات المتعاقبة والمتنافسة وفساد الإدارة فيها دوراً كبيراً في استمرار الفوضى في الجنوب الليبي؛ فقد غدا خارجاً عن سيطرة الحكومات جميعها، وصار مرتعاً لعصابات التهريب والإرهاب المُتنقلة بحرية كاملة بين شمال نيجيريا ومالي غرباً والسودان شرقاً. ويعتبر الليبيون أن الجنوب شبه مُحتل من عصابات تشاديّة ونيجيريّة وأغراب آخرين استحوذوا على الأراضي وباشروا زراعتها وإسكان قبائلهم فيها، وذلك في غفلة من تلك الحكومات عما يجري في الجنوب.

ولا يقتصر الأمر في هذه الفوضى الداخلية على تعدد الحكومات؛ بل تزداد الصورة قتامة حين نجد سلطة رابعة على الميدان تفرض وجودها بما تلقاه من دعم داخلي وخارجي أيضاً، وأعني سلطة اللواء المتقاعد «خليفة حفتر» الذي يقود بعض ما تبقى من الجيش النظامي الليبي بدعم فرنسي حيناً ومصري روسي حيناً آخر ليواجه الفصائل الإسلامية بمختلف تشكيلاتها وتعقيداتها من خلال عملية (الكرامة) من دون أن يغفل على ضرورة السيطرة على النفط؛ حيث استغل «حفتر» انشغال قوات حكومة الوفاق بمكافحة تنظيم الدولة للسيطرة على منطقة الهلال النفطيّ في سبتمبر/ أيلول 2016، فوضع يده على موانئ السدرة ورأس لانوف والزويتينة.

ولعلّ العامل الأبرز في هذه الفوضى وهذا المشهد المتشظي المفتوح على المجهول ضخامة المراهنات الخارجية على ثروة ليبيا، التي تمتلك أكبر احتياط من النفط في إفريقيا، وغيرها من الثروات الأخرى. فبعد مرحلة بيع الأسلحة للتدمير، بدأ التفكير في مرحلة الاستثمار والإعمار؛ فمن جهة نجد فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة الأميركية، ومن جهة أخرى نلاحظ الدب الروسي وهو يحاول استعادة مكانته في ليبيا الحليف التقليدي لروسيا.

ولئن كانت فرنسا سباقة في المساعدة على القضاء على نظام معمر القذافي، فإنّها لم تفعل ذلك من أجل الديمقراطية في ليبيا، وإنما من أجل مصالحها الاقتصادية والسياسية؛ فها هي تسعى إلى تحصيل ميزات لمجموعة (توتال) فضلاً عن استعادة نفوذها في منطقة فزان (جنوب) والتي وضعتها الأمم المتحدة تحت الإدارة الفرنسية بُعيد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية. في حين تحاول إيطاليا المحافظة على امتيازاتها في ليبيا وخاصة في قطاعي النفط والغاز، فليبيا تزود إيطاليا بـ 17 في المئة من حاجياتها النفطية و23 في المئة من حاجياتها الغازية. وأمّا موسكو فتعمل، بالتعاون مع قوات اللواء «خليفة حفتر»، على استعادة مكانتها التي كانت تحظى بها في حكم الرئيس المخلوع معمر القذافي حيث كانت المزود الأول لذلك النظام بالأسلحة والذخيرة.

إنّ هذه التجاذبات والصراعات السياسية والعسكرية في ليبيا لا تقترن فقط بسلوك القوى الداخلية على اختلاف تشكيلاتها، بل هناك قوى خارجية عربية وغربية تعبث بالوضع في ليبيا لفرض واقع الفوضى والمجهول الذي يسمح لتلك القوى الدولية بالاستثمار زمناً أطول في الدم الليبي، وبمزيد تشويه إرادة الشعب الليبي في بناء دولة مدنية عصرية لها وزن حقيقي بين الأمم.

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 5190 - الإثنين 21 نوفمبر 2016م الموافق 21 صفر 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 3:16 ص

      ليبيا تترحم على القذافي مو لأنه خوش آدمي لكنه أقل سوء من الوضع الحالي، ثلاث حكومات متصارعة ومليشيات سائبة، كما يقول الدكتور علي شريعتي: لا فائدة من ثورات تنقل الشعوب من الظلم الى الظلام.

    • زائر 2 | 12:22 ص

      إنّ هذه التجاذبات والصراعات السياسية والعسكرية في ليبيا لا تقترن فقط بسلوك القوى الداخلية على اختلاف تشكيلاتها، بل هناك قوى خارجية عربية وغربية تعبث بالوضع في ليبيا لفرض واقع الفوضى والمجهول الذي يسمح لتلك القوى الدولية بالاستثمار زمناً أطول في الدم الليبي، وبمزيد تشويه إرادة الشعب الليبي في بناء دولة مدنية عصرية لها وزن حقيقي بين الأمم

    • زائر 1 | 11:51 م

      نسأل الله أن تخمد الفتن في ليبيا وسائر بلادنا العربية
      نأسف حقا ونحن نشاهد الصراعات والتجاذبات من هنا هناك في ليبيا، والشعب الليبي الشقيق ينتظر بصيص أمل ليسود الأمن والاستقرار...

    • زائر 4 زائر 1 | 12:31 م

      فعلا استاذ سليم يبدو الوضع في ليبيا أكثر قتامة مما يعتقد البعض.
      فالحاضر الليبي رهين توافقات اجنبية خرجت عن سيطرة التوافقات الداخلية والمستقبل ينبأ بما هو أسوأ.
      لا يجب البكاء على الأطلال لكن يبقى الحل والعمل بيد هذه الأفكار المفككة بين تأسيس دولة ليبيا الإسلامية في المستقبل القريب وبين بناء ليبيا الليبرالية في المستقبل البعيد وبين هذا وذاك ضاعت رقعة ترابية أخرى من الوطن العربي الكبير
      أملنا في غد أفضل للشعب الليبي أمل يأتي ويذهب لكننا لن نوعه أبدا استعيرها من درويش رحمه الله ...

اقرأ ايضاً