العدد 5194 - الجمعة 25 نوفمبر 2016م الموافق 25 صفر 1438هـ

برغر: شارلي تشابلن وفن السقوط... ينشل الضحِك من الخيبة

«بدايات» في عددها الثالث عشر...

شارلي تشابلن
شارلي تشابلن

تميَّز العدد الـ (13) لشتاء العام 2016، من مجلة «بدايات» الفصلية بموضوعات ونصوص ملفتة، وضالعة في حالة شعرية أخَّاذة حتى وهي تقارب بعض الموضوعات الغارقة في السياسة والحروب والكوميديا. الكوميديا الخلَّاقة تحديداً؛ ولهذا تأتي كتابة الحكواتي والروائي والكاتب المسرحي والناقد والرسام البريطاني جون برغر، التي حملت عنوان «شارلي شابلن وفن السقوط» قريبة مما أشرنا إليه.

ترد في الكتابة الفقرة الآتية: «هو أيضاً إيمائي يبتكر حوارات معقَّدة بين ملامح وجهه، وحركات يديه الحساستين والهواء المحيط به، هواء حر ولا ينتمي إلى أي مكان. الممثل، يصير مُعلِّماً في فن النشل. ينشل الضحك من جيب بعد جيب من الارتباك والخيبة. يُخرج الأفلام ويمثِّل فيها. لكن ديكوراتها جرداء، مغفلة، ولا أمَّ لها».

يبدأ برغر كتابته عن تشابلن ‏(ولد في 16 أبريل/نيسان 1889، وتوفي في 25 ديسمبر/كانون الأول 1977)، بالآتي: «إنه يرى أن مُجريات الأمور في العالم بلا رحمة، ويتعذَر تفسيرها. فيعتبر ذلك تحصيل حاصل. يتركَّز كل نشاطه على الراهن: أن يتدبَّر أمره، أن يجد مَخرجاً نحو مزيد من النور. فقد لاحظ أن الحياة مليئة بظروف ومواقف تتكرر حتى تصير مألوفة، على رغم غرابتها. منذ الطفولة المبكِّرة، ألَّف الأمثال والنكات والنصائح وحيل المهنة والمخاتلات، التي تشير إلى أحاجي الحياة اليومية المتكررة، ولذا يتصدَّى لها بحِكَم استشرافية لما يتعرض له. فنادراً ما يرتبك».

العبقري الذي أضحك العالم في عالم مليء بالدموع والمرارة، لم يكن مؤدِّياً فحسب. كان مُكتشفاً للغامض من العالم، وبكل ذلك الوضوح في الإيماءات والصمت الذي عرَّفه بالعالم.

لم يحْتَج إلى فلسفة غامضة كي يعرِّف بحاجاته التي يمكن لها أن تكرِّسه صوتاً فريداً في كوميديا الفن السابع. كان بسيطاً وعميقاً في هذا الشأن، وهو القائل: «كل ما أحتاجه لصناعة كوميديا: متنزّه، شرطي, وفتاة جميلة»، ولذلك رأى أن يوماً «بدون سخرية هو يوم ضائع».

وعنه قال جورج برنارد شو: «إنه العبقري الوحيد الذي خرج من الصناعة السينمائية».

إصلاحيات الخاسرين

ينتهج برغر ما يمكن أن يُطلق عليه الحكاية المفتوحة التي قد لا تتمكَّن من الإمساك ببدايتها، وعليك ألَّا تنتظر نهايتها. في الكتابة سرد، ولا سرد. فيها تشكيل لملامح تشابلن، لكنك لن تجزم أنها الصورة الكاملة، أو حتى القريبة منها. هو هكذا يترك الكتابة عنه مفتوحة على الاحتمالات. أجمل الكتابات التي تُترك في مهبّ تلك الاحتمالات، من دون أن تمنِّيك بالشكل والصورة والنتيجة التي ستكون عليها. ذلك ما يفعله برغر.

المبدع المتفرِّد، كما يسرد برغر - إشارة - قضى معظم طفولته في مؤسسات الرعاية الاجتماعية». لم تكن ظروف حياته وأسرته مثالية، بل على العكس من ذلك؛ حيث المعمل، ثم في مدرسة للأطفال البائسين. أمُّه واسمها هنَّه، وكان شديد التعلق بها، لم تكن قادرة على الاهتمام به. «قضت معظم حياتها في مستشفى للمجانين. كانت متحدِّرة من جنوب لندن من بيئة من المؤدِّين في القاعات الموسيقية».

يُدخلنا برغر في العميق من تفاصيل البيئة الأولى، تلك المشحونة بالقسوة وبرود العاطفة؛ بل عدميتها؛ إذ كانت مؤسسات رعاية الفقراء «مثل المحرفات ومدرسة الأطفال المهجورين، تشبه السجون، وهي لا تزال تشبه السجون، بطريقة تنظيمها وهندستها. إنها إصلاحيات لـ (الخاسرين)، وعندما أفكِّر في الصبي ذي العشر سنوات ومعاناته، أفكِّر بصور زيتية لأحد أصدقائي»!

مُعلِّم في فن النشل

وعن الإيماءات والصمت، وهو ما برع فيه تشابلن، وهو الذي حدَّد له المكانة الرائدة واللائقة في عالم الفن السابع، يكتب برغر. يكبر الصبي، وقوفاً على ملامحه الشاخصة، ليمارس بعدها الرقص والغناء «هو أيضاً إيمائي يبتكر حوارات معقَّدة بين ملامح وجهه، وحركات يديه الحساستين والهواء المحيط به، هواء حر ولا ينتمي إلى أي مكان. الممثل، يصير مُعلِّماً في فن النشل. ينشل الضحك من جيب بعد جيب من الارتباك والخيبة. يُخرج الأفلام ويمثِّل فيها. لكن ديكوراتها جرداء، مغفلة، ولا أمَّ لها».

يعيدنا برغر إلى الزمن الراهن... الزمن الخاسر بخسارته الإنسان، ذلك الذي يبحث عن الكرامة بالموت في البحر، بعد أن يتسلَّم مهرِّبو البشر أجرة الدخول إلى الجحيم المائي. هو تطرُّق ليس بعيداً عن سيرة تشابلن. لم يكن الأخير مؤدِّياً وممثلاً فحسب. كان إنساناً وناشطاً وحقوقياً بامتياز، وكأن برغر باستعادته اللحظة الراهنة يكاد يُكمل الصورة، لأن تشابلن بات بعيداً منها. هناك في راحته الأبدية.

يضعنا أمام هذه الصورة المتكررة لفقراء وخائفين ومعارضين، ومن لا علاقة لهم بكل هذا الجحيم الدقيق والمُرتَّب في العالم. لا جحيم يُسجَّر هكذا بمحض المصادفة. «منذ ستة أشهر في البحر المحيط بجزيرة لامبيدوزا الإيطالية، غرق 400 مهاجر من إفريقيا والشرق الأوسط في مركب غير صالح للإنزال في الماء، وهم يحاولون دخول أوروبا بطريقة غير شرعية على أمل الحصول على عمل (ليته كتب على أمل الحصول على أمل). على امتداد الكرة الأرضية يوجد 300 مليون من الرجال والنساء والأطفال يبحثون عن العمل يؤمِّن لهم الحد الأدنى من المعيشة». ليضعنا أمام صورة الفتى يوم أن كان طفلاً «لم يعد (المتسكِّع) فريداً. وقتها كان تشابلن في مهب الحياة، والعوز والبحث عن النجاة. أي نجاة.

لذلك يعيدنا برغر إلى دائرة الحكاية المفتوحة التي قد لا تتمكَّن من الإمساك ببدايتها، وعليك ألَّا تنتظر نهايتها، مشيراً إلى أن المهرِّج يدرك أن الحياة قاسية، وزيّه البالي المرقَّع ذو الألوان المبهرجة هو بحد ذاته تعليق هزلي على تعابيره الكئيبة. المهرج معتاد على الخسران. الخسران هو مقدمة العرض الذي يقدمه».

عن الممثل الذي لا يريد شيئاً من الناس. لا يريد سوى الضحك، يكتب برغر عن صورة فوتوغرافية لتشابلن عندما كان في منتصف الثمانين، يقول نظرت إليه ذات يوم فلاحظت أن التعبير على وجهه أليف، لكني لم أعرف السبب. عادت إليَّ الفكرة لاحقاً. تحرَّيت عن الأمر. التعبير على وجهه يشبه تعبيراً على وجه رامبرانت في آخر صورة ذاتية له: «صورة ذاتية بما أنا فيلسوف ضاحك أو بما أنا ديمقرايتس». صوت ضمير يأتي من عقود خلت. كلمات قالها بحب مهرِّج فيه حكمة العالم. على الأقل عالمه المشغول بالحروب أو تدبير إشعالها «أنا مجرد ممثل هزلي لا أساوي أكثر من فِلس»، «كل ما أطلبه هو ضحِك الناس».

الانفجار الاجتماعي

احتوى العدد في باب «أخذ ورد»، مقابلة أجريت لمجلة «جاكوبين» من قِبَل طالبة الدكتوراه في علم الاجتماع بجامعة نيوريورك ندى متَّى، مع الباحث والأكاديمي اللبناني في معهد الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، جلبير الأشقر، حملت عنوان «ماذا حلَّ بالربيع العربي»؟ تناولت ما شهدته بعض الدول العربية من حراك لم تشهده منذ عقود، بدءاً من 17 ديسمبر 2010، حيث انطلاق الشرارة الأولى من تونس، لتمتد إلى عواصم عربية احتل فيها الملايين الشوارع والميادين، سعياً وراء العدالة الاجتماعية والديمقراطية والكرامة التي تم إهدارها لعقود أيضاً. كان الأمل هو الربَّان لكل تلك التحركات. الأمل في غد عربي لا خوف ولا قلق ولا زيارات ليلية فيه، وصولاً إلى الانتكاسات التي انتابت بعض ذلك الحراك، ووصول بعضه؛ أي الحراك، إلى وحش التهم الأخضر واليابس.

ثمة تقصٍّ دقيق انتهجه جلبير في تناوله الانتفاضات العربية، والظروف التي دفعت إلى قيامها، وتعاطي الإعلام الرسمي العربي معها، والسمات المشتركة بين أول انتفاضتين في تونس ومصر، حيث الطبقة العمالية كان لها الدور الأكبر في تحديد مسار كل منها، والرؤى التي استندت إلى تصوُّر يفيد بأن «الربيع العربي» أتى نتيجة تحول ثقافي وسياسي حمله جيل جديد متصل بالثقافة العالمية بفضل تقنيات المعلومات والتواصل الجديدة. تلك الرؤية لم تكن خارج السياق. إلا أن الأشقر شدَّد وقتها على أن الجذور العميقة للانتفاضات في المنطقة، جذور اجتماعية واقتصادية قبل أن تكون سياسية، واعتبر أن ما جرى بمثابة «انفجار اجتماعي في المقام الأول، حتى لو اتخذ طابعاً سياسياً، كحال أي انفجار اجتماعي واسع النطاق».

ويقرأ الأشقر الثورات في المنطقة العربية بأدوات ماركسية «كحالة كلاسيكية في الثورة الاجتماعية ناتجة من انسداد مزمن في آفاق التنمية، ميَّز المنطقة الناطقة بالعربية لثلاثة عقود، بمعدلات نمو منخفضة بامتياز أفضت إلى معدلات بطالة مرتفعة بامتياز، ولاسيما بين الشباب».

وفي سياق تتبُّعه للجانب الاقتصادي، يؤكد جلبير الأشقر على أنه لم يكن ممكناً بأي شكل من الأشكال أن يصبح القطاع الخاص مُحرِّكاً لمعجزات اقتصادية مثلما أراد الليبراليون أن يؤمنوا. فبقي الاستثمار الخاص محدوداً، قائماً على المضاربة في معظمه، وموجهاً نحو الربح السريع. ولم يعوّض القطاع الخاص عن أفول استثمارات القطاع العام وركودها، ففشل النموذج النيوليبرالي على نحو بائس في المنطقة العربية.

كما أشار الأشقر إلى أن السيرورة الثورية طويلة الأمد في المنطقة العربية ستقاس بالعقود بدلاً من السنوات من وجهة نظر تاريخية.

«تصحيح خطأ الموت»

وفي العدد تأتي مساهمة الكاتبة وحافظة التراث اليمني، ووزيرة الثقافة سابقاً أروى عبده عثمان عن «أرامل الحرب في اليمن... تقية تهذي»، بأسلوب أقرب إلى اليوميات والسيرة، وتقترب في أسلوبها الشعري من نص نعي لا ينشغل بالحالات الخاصة بقدر متاخمته إلى الحال العامة التي يمكن أن تنتج عن الحرب. أي حرب، تركيزاً على فئات النساء ممن يدفعن أضعاف الكُلف التي يدفعها الرجال، بالمسئوليات التي تقع على عاتقهن بعد غياب أو قتل الكافل.

أما الباحث والناشط اليمني فارع المسلمي، فيقدِّم مقاربة بين اتفاق «الطائف اللبناني، والمبادرة الخليجية في اليمن».

«تصحيح خطأ الموت»، عنوان مساهمة الشاعرة والكاتبة السورية رنا زيد، فيها الكثير من التداعي اللغوي، جنباً إلى جنب تداعي الأحداث في سورية منذ العام 2011، وما تركته من آثار عميقة لن يكون من السهل أن تندمل هكذا بفعل قرار أممي، أو بفعل هدنات مؤقتة يستريح فيها المقاتلون كي يستعيدوا لياقتهم لاستئناف مزيد من الموت والخراب وفتح الأبواب لانتهاك الحدود الوطنية. وعن الهجرات في البحر الذي يبتلع رعاياه الفارين من جحيم التراب إلى جحيم الماء. وفي هذا المفصل تحديداً تكتب بلغة حادَّة ومرهفة في الوقت نفسه «نحن في نزهة. نهدهد خلالها الدول فنسرق حدودها ليمر الغرباء. ونحن الغرباء ونشبه الغَجَر. يا صغيري النائم في برد البحر. أنا وأنت لا ندري شيئاً عن الموت. أنا وأنت لا نخاف. لأننا اعتدنا الرعب. وأنا وأنت ميتان».

وعن تفاصيل تلك الحرب، وبمقاربة شعرية تنأى عن المباشرة في تسجيل اليوميات. هذه المرة تكتب عن الجثة/ الذئبة التي يسيل من لعابها حليب فاسد. تكتب «لعل أحداً ينتبه إلى أن في الأسفل من كومة أجسادنا. لا تزال هناك جثة تنطق بما يوحي بأنها تعيش في حياة جديدة سعيدة. إن الجثة تعوي كذئبة جائعة. يسيل من لُعابها حليب فاسد. ها هي تداعب رأسي. أنا الجثة ما قبل الأخيرة. أهناك أحد سيمرُّ ويصلح شاهدة القبر»؟

جلبير الأشقر - جون برغر
جلبير الأشقر - جون برغر
غلاف الكتاب
غلاف الكتاب




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً