العدد 5195 - السبت 26 نوفمبر 2016م الموافق 26 صفر 1438هـ

قبل النُّحاس والفوتوغراف

عبدالعزيز جاسم - شاعر وكاتب إماراتي
عبدالعزيز جاسم - شاعر وكاتب إماراتي

(1)

قبل النُّحاس والفوتوغراف. قبل الطواحين والمراثي والحمَّى الصفراء. وُلد العالم ميتاً، ومقطوعاً من الرقبة. كلولب الساكسفون. بين غضْبة الصواعق وقفْر الكائنات، وغابت أنواره فجأة خلف المرتفعات.

لكنهم قالوا: إنَّ يداً سحرية في الجهة الشرقية أنقذتْه. نزعتْ عنه حلَّته الباذنجانية وحزامه اللبنيّ العريض. وأزاحت عن كاهله درْع اليقين. لملمتْ دمه النازف بملعقة. غسلتْ منجل الذبح ونظَّفتْه من الصرخات. خاطتْ جراحه الغائرة وأعادت إليه رأسه الثلجي الحزين. دحَّتْه سبعاً في ظهره وفرقعتْ عظامه. فركتْ أخمصيْه بمغناطيس. ثم على أقلّ من مهَل، سحبتْ من فمه خيط الحشرجات الطويل.

(2)

قبل النُّحاس والفوتوغراف. قبل الطواحين والمراثي والحمَّى الصفراء، وُلد الشر بألف قلب من الحصى. كانت تدقُّ في صدره كأجراس حِداد. وُلد في عاصفة الوحْل. ما بين برْقين منتحرين. وتعلَّم البوْل في الأفواه. زاحفاً كالثعابين. سائلاً كقطران التبغ في عيون الأرض الرمادية.

هكذا بتاج وصولجان، عُلِّقتْ القلوب على أعواد المشانق!

(3)

وُلِد السر بألف قلب من الحصى، والقبر جعلوه يصعد إلينا في المنام. فإلى أي ركْن نلوذ؟ ومن سيجرُّ نعوشنا، حين يربض السيف فوق منحر العدل، وتذوب أعمارنا في غلَّايات النسيان؟

وُلد السر، وما من شيء يمنع حدوثه: الحقد نهر سخَّام هادر، والمكيدة نهران، والأذى بحر موصول ببحار، والطمأنينة صدى!

أمَّا هذا الفم الذي يقبِّلنا الآن؛ فمن الممكن أن يأمر بقتلنا غداً. ثم ها هو القماط والكفن، يتطايران من على السطح، والباب الذي دخلتْ منه المُرضِعاتْ، ستخرج منه الدافنات أيضاً.

وُلِد الشر كما تُولد الأقنعة، وها هي رايته الكبيرة تُرفرف فوق عظام العالم.

(4)

بين النُّحاس والفوتوغراف. بين الطواحين والمراثي والحمَّى الصفراء، وُلدتُ أنا كذلك، في غروب بحري، ووجدوا مفتاحاً نُقِش على صدري!

إلَّا أن الذراع التي جذبتْني من اليمِّ، وضعتْ لِحْية الليل المرقَّطة تحت رأسي، كي أرقب السماء الصافية وحدها. رفعْتُ برقع الصقر الذي طار بحبل سُرَّتي نحو جبل مُدخَّن. غطَّتْني بالتعاويذ وسمَّتْني العزيز، ثم بحركة سريعة، مرَّتْ فيها أفكار الخليقة كلها. قلعتْ عين فجر مريض، ووضعتْها في الطَّاسة الفارغة أمامي.

هاكَ، قالت لي: تحسَّس الموت بأصابعك، ولا تخفْ منه. إنه مجرد سنجاب حقل. مجرد صياد دببة عتيق. ظلُّك الأبدي هذا. تحت عمامته الضخمة، يرقد الخلاص والحياة كزوجين، فلا تفلتْهما من يدك، ولا تهدر وقتك في قتاله. الشمس بصرك، وظلامها معناك، فلا تملّ من عزمك، وتلعقْ خمرة البهائم فتتهدَّمْ، ولا تُوثق قدميك بهباء متدنِّس، فتصغرْ وتذُوبْ وتعيش كبعوضة.

(5)

بين هذا وذاك. وفي مكان بلا زمن، عبرْتُ صدْع هزَّة أرضية. وكانت أجفاني يتدحرج من فوقها الأذى، مثل مظلَّة مليئة بالإبر. وحين وصلت منحدر الساعة الرملية، بلا نَفَسٍ تقريباً، بينما الطاعون يغسل شعره بين ضفتين، والعقرب بساق واحدة تقتفي أثري.

رميتُ بكل شيء ورائي، وأرْخيتُ نظرة حانية على ضريح البحر، ثم نأيت بنفسي بعيداً. ابعد من حياتي ذاتها. عن نسل لا يعيش ولا يموت؛ بل الأغرب؛ لا يموت ولا يعيش أيضاً!

*نُشر هذا النَّص في العدد الثالث والسبعين من مجلة «شئون أدبية» التي تصدر عن اتحاد كتَّاب وأدباء الإمارات، وذلك بترتيب مع نائب رئيس تحرير المجلة، الشاعر والكاتب الإماراتي عبدالله محمد السبب، ضمن العلاقة الوثيقة التي تجمَع المنبرين.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً