العدد 5198 - الثلثاء 29 نوفمبر 2016م الموافق 29 صفر 1438هـ

هؤلاء هم من قوم لا يَطيقون النَقْـد

علي محسن الورقاء comments [at] alwasatnews.com

محامٍ بحريني

النقد، المقصود به هنا؛ هو بيان ما في العمل من عيوب ومحاسن، أو إخراج ما في الشيء من مساوئ وقصور، أو إظهار الشيء «المُنتقد» على حقيقته بخلاف ظاهره.

وهو اسم مصدره (أو فعله) نَقَد، وفاعله «ناقِد»، وهو يدخل في إطار مفهوم التنظير أو التقييم، الذي يُفترض أن يُستخدم بطريقة منهجية من شخص متخصص ومحايد بعيداً عن العاطفة وبمعزل عن صاحب العمل أو صاحب الشيء محل النقد، ولهذا يراه البعض وجهاً من وجوه إبداء الرأي لكونه يُعدّ وسيلة تعبير ـ سواء كان مكتوباً أو منطوقاً ـ من شخص يسمى ناقداً. وهو بتعريفه هذا يختلف عن معنى «الانتقاد»، رغم أن هذا الأخير يَتَّحِد معه بأنه وجه من وجوه إبداء الرأي كما سنرى.

فإذا كان «النقد» هو إظهار ما في العمل من عيوب ومحاسن أو بيان ما في الشيء من قصور ومساوئ على النحو السالف ذكره؛ كمن ينتقد قانوناً أو قراراً وزارياً مثلاً، أو ينتقد سياسة جهة رسمية معينة، فإن «الانتقاد» يأتي بخلافه النقد؛ إذ نجد في الانتقاد أن الناقد لا يَتلمَّس إلا الجوانب السيئة للشيء محل النقد ويغض الطرف عن محاسنه، ولا يكون همه إلا تصيُّد الأخطاء إن وجدت، أو أنه يُخَطِّئ ما هو صحيح ويُعيب ما هو حسن، بل أنه أحياناً يُظهر الشيء المُنْتقد بشكل سيئ وعلى غير حقيقته ليشبعه تجريحاً وسخرية، إما عن أحقادٍ شخصية أو عن تطرفٍ فكري وعقائدي. ولهذا يُطلق على الأول (النقد) بالنقد البناء أو الايجابي، ويُطلق على الثاني (الانتقاد) بالنقد الهدام أو السلبي.

والملاحظ في الكثير من الأمم المتحضرة ذات النظم الديمقراطية الصحيحة، تهتم بالنقد البناء وتزرع الناقِد زرعاً كما يُزْرع الشجرُ المثمر، بينما نلحظ في النظم غير الديمقراطية تُقمع النُقّاد قمعاً وتُقلِعهم كما يُقلع الشجرُ اليانع، إما بذريعة أنهم معارضون يجب اجتثاثهم، أو بتهمة أنهم محرضون فيجب وقفهم. بل والأسوأ من ذلك عندما نلحظ قوماً، أو بعض أنظمة، تتقبل أو تغض البصر عن أصحاب النقد السلبي ممن لا يكون همهم سوى تجريح الأفراد الآخرين من غير رهطهم، أو التسفيه بالملل أو العقائد الأخرى غير التي ينتمون إليها، وكأن القِيم عند هذا القوم (أو تلك الأنظمة) مقلوبة، وقوارير الأخلاق لديها فارغة، ومحاسن الأدب فيها خاوية.

ولكن مع ذلك دعونا نحاسب ضمائرنا ونسأل أنفسنا؛ لِمَ نحن دائماً نثير الغُبار في وجه الأنظمة السياسية ونعيب الحكومات وننسى سلوكيات الأفراد رغم أنهم يمثلون الثقل الوازن في المجتمع. ألم نجد كم من صاحب عمل عَجَّل بفصل عامل لمجرد أن هذا العامل أبدى رأيه بشأن قرار غير صائب أصدره صاحب العمل، وكم من مديرٍ أقام الدنيا ولم يقعدها ضد موظف أبدى رأيه بشأن سياسته وإدارته.

وإذا ما ذهبنا إلى أبعد من ذلك، سنجد كم من وزير ووزير لا يقبل النقد، حتى وإن كان هذا النقد لا يمس شخصه، عن سلوك أو طبع متجذر في شخصيته أكثر مما هو نابع عن سياسة النظام التابع له.

فلنتصور ـ في هذه الجزئية الأخيرة مثلاً ـ أن وزيراً يمتنع عن مقابلة مؤلِّف ذهب ساعياً لإهدائه كتاباً من إصداراته القانونية، لا لشيء سوى أن هذا المؤلِّف كان في يوم ما قد وقف في مقالٍ على واقع قائم في وزارته، أو انتقد قانوناً يتصل بوزارته، وآخر على شاكلته أيضاً؛ لأن هذا المؤلِّف كان يوماً ما قد تناول وضعاً يرتبط بفرع من فروع وزارته.

بيد أني في هذا الموقف بالذات، لا أخال أن هذا الوزير أو ذاك لا يُقدِّر العمل البناء والفكر الصالح والعطاء المفيد، ولا أظن أنه يزدري أهل العلم، إنما أرى من تصرف هذا الوزير أو ذاك، ومن هم على شاكلتهما وأمثالهما ـ على النحو السابق ـ مرده يعود إلى أن هؤلاء هم من قوم لا يطيقون النقد عن إرادة وسلوك شخصي محض وطبع متجذر بمعزل عن النظام السياسي التابعين له، كي لا نُحمِّل الأنظمة دائماً جريرة تابعيها عن كل سلوك فردي غير مقبول.

إقرأ أيضا لـ "علي محسن الورقاء"

العدد 5198 - الثلثاء 29 نوفمبر 2016م الموافق 29 صفر 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 12:05 ص

      روي عن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان أنه قال على المنبر: "من قال لي اتق الله ضربت عنقه".

    • زائر 4 | 12:03 ص

      قال تعالى (يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)
      هذا ملخّص كلامك يا استاذ، وكلام الناصح ثقيل هذه حقيقة هنا يريدون الشكليات في كل الامور

    • زائر 3 | 12:00 ص

      نعم لا يطيقون النقد البنّاء لأن هناك سلع أخرى طغت على السوق وهي سلعة النفاق والتزلف والتدليس .
      حين يسود البلد قيم النفاق والتزلّف فلا قبول لكلام الناصح المشفق

    • زائر 1 | 9:56 م

      لك الشكر استاذ ، لكن الكلام في دولنا ضايع واصبح النقد يدخل الحبوس

اقرأ ايضاً