العدد 5204 - الإثنين 05 ديسمبر 2016م الموافق 05 ربيع الاول 1438هـ

هروب علي عزت بيغوفيتش إلى الحرية

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

من السهل على المرء أن يختار العزلة، ولكن من الصعوبة أن يقاومها وهي تستغرقه، ومن الصعوبة أن يختار الهروب من عذابها المؤرق، وإحساسها الثقيل حين يكون في قعر سجن قوتشا الرهيب بجمهورية يوغسلافيا الاشتراكية ذي الأسوار العالية. هذا ما كان على الرئيس البوسني السابق علي عزت بيغوفيتش (ت 2003) أن يفعله حين كان عليه أن يقضي أعواماً طويلة في تلك العتمة الباهرة، إذا جاز لي أن أستعير من معجم من الطاهر بن جلون.

كيف كان هروب بيغوفيتش إلى الحرية؟ لم يكن ليتحقق له ذلك إلا بالتهام الكتب الأدبية، وتلخيصها، والتعليق عليها، وتسجيل خواطره في ظروف إنسانية صعبة، هروبٌ دوّنه في كتابه الشيق: «هروبي إلى الحرية»، الذي تضمن حشداً هائلاً من الأفكار والتأملات والاعتقادات العميقة، كتبه أيام دخوله السجن من العام 1983 إلى 1988.

«الأدب هو هروبي الثقافي إلى الحرية»، يقول، لكنه كان أيضاً يجد في تلك الرسائل الرقيقة الناعمة التي تصله بأفراد أسرته «هروبه العاطفي»، وبسببها قاوم قسوة الأوضاع وضراوة الأذى بصبر وثبات، فجاء الكتاب وليد تفكير بالحرية؛ الجسدية منها والداخلية، تفكير بالحياة والمصير والناس والحوادث، تفكير بكل ما يخطر على بال سجين خلال ألفي يوم وليلة.

جمع علي عزت في كتابه «خلاصة الخلاصات» لكل ما يجب التفكير فيه أو يستحيل أن يفكر فيه، تحدث عن أن الأدب هو الحرية، وعن الحياة والناس والحرية، وعن الدين والأخلاق، ويبدي ملاحظات سياسية، ويلحق بالكتاب رسائل وصلت إليه من أولاده أثناء سجنه، يقول بيغوفيتش في كتابه: «كانت تلك الأيام ينتظرني فيها ما يقارب ثلاثة عشر عاماً من السجن، وعندما كان الموت هو الأمل الوحيد أخفيت هذا الأمل بداخلي».

ما يميّز كتاب بيغوفيتش أو مذكرات سجنه، أنها رحلة وجدانية وفكرية شيقة في رحاب العقل والروح والتجارب الأدبية العالمية، يتوقف الكاتب فيها عند هيغل وهيدغر، ويأخذك إلى عوالم شكسبير وميلان كونديرا وهيرمان هسه، ويطوف بك مع القرآن الكريم، ويقتبس من روايات ديكنز وبلزاك، ويعبّ من الأدب الروسي، ويستشهد بنبالة دون كيشوت، ويتفكّر في جحيم دانتي. إنه سجلٌ حافلٌ بأبدع الأفكار المُختارة التي حفل بها الأدب الإنساني في مختلف العصور.

سأختار هنا بعض الفقرات من أوراق الهروب من العتمة ليشاركني متعتها القارئ: «دَخَل الشعوب التاريخ أغنياء في الأخلاق وفقراء مادياً، وعندما تخرج من التاريخ، فإن الوضع عادةً يكون معكوساً». «لا كراهية لديّ... ولكن لديّ مرارة». ويقول مُحقاً: «احتقار الموت الذي يُشاد به أحياناً يمكن أن يكون نتيجة عدم احترام الحياة أو الانسان».

ويقول: «الصاحي يبدو مُضحكاً بين السكارى؛ لأنه في صحبة السكارى يكون هؤلاء الأكثرية، وهم يحدّدون ما هو طبيعي، فالرجل الصاحي يتصرف بشكل غير طبيعي في هذه الصحبة». نقول: وكذلك النزيه بين الفاسدين.

ولبيغوفيتش نظرة للقارئ وسلوك القراء يقول فيها: «القراءة المُبالغ فيها لا تجعل منا أذكياء، بعض الناس يبتلعون الكتب، وهم يفعلون ذلك بدون فاصل للتفكير الضروري، وهو ضروري لكي يهضم المقروء ويبني ويتبنى ويفهم. عندما يتحدّث إليك الناس يخرجون من أفواههم قطعاً من هيجل وهيدجر أو ماركس في حالة أولية غير مصاغة جيداً. المساهمة الشخصية عند القراءة ضرورية مثلما هو ضروري للنحلة العمل الداخلي والزمن لكي تحوّل رحيق الأزهار المتجمع إلى عسل».

ويقرّر: «الأدب يكشف بعض الأسرار التي تميّز الرجل عن المرأة. الرجل يكتب عن الخير والشر، عن البطولة والجبن، عن معنى الحياة ولا معناها، وعن النضال والحب. النساء يكتبن عن الحب فقط. وإذا تناولن موضوعاً آخر، فهو دائماً مكرّس للأول، الذي ترى المرأة من خلاله الحياة وتعيشها. الرجل يكتب عن كل الحقوق واللاحقوق، والمرأة إذا كتبت فإنها تكتب عن حق واحد، حق القلب، وهذا هو قانون علاقتهما القديم قدم العالم»!

وعن الأدب الذي يخصّص له مساحة واسعة من الكتاب يقول أيضاً: «في الأدب حجم البطل ليس في أهميته الاجتماعية، وإنما بحجم القضية الأخلاقية التي يحملها هذا البطل، فالشخصية الكبيرة إذا تصرفت في الرواية خيراً أو شراً باستقلال عن دائرته الاجتماعية وعنوانه وموقعه. ولذلك فإن الملك في الرواية والمسرحية يمكن أن يكون شخصية غير مهمة والخادم بطلاً. لماذا لا تسير الأمور هكذا في الحياة؟ السبب بأن الكاتب في الأدب يعرّفنا على روح البطل، وفي الحياة نتعرّف على الناس من الناحية الخارجية فحسب».

يُذكّر كتاب بيجوفيتش بأشباه له ونظائر في تراث الأدب العربي، وقد طاف في ذهني كتاب «التذكرة الحمدونية» لمحمد ابن حمدون (ت 562هـ) الذي كان يعاني هو الآخر نوعاً من العزلة حين أخذ في جمع مادة كتابه، مؤثراً – باختيار - عِشرة الكتب على عِشرة الآدميين، فهو يقول إنه أخذ في وضع كتابه حين «فسد الزمان وخان الإخوان، وأوحش الأنيس، وخيف الجليس، وصار مكروه العزلة مندوباً، ومأثور الخلطة محذوراً»، وكانت غايته من وراء ذلك- بعد التسلية الذاتية- أن يُقدم للناس أمثالاً وحكماً وحكايات وأخباراً ونوادر، لعلهم يجدون في كل ذلك الترويح والمتعة والعبرة والتأدب والتثقف.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 5204 - الإثنين 05 ديسمبر 2016م الموافق 05 ربيع الاول 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً