العدد 5225 - الإثنين 26 ديسمبر 2016م الموافق 26 ربيع الاول 1438هـ

قصة قصيرة... عطر جدّتي

نور جاسم البخيت - قاصة عراقية 

تحديث: 12 مايو 2017

اجتمعت الأسرة المكوّنة من الأب والأم وطفلتين صغيرتين هما نور وزينب على مائدة العشاء مع الجدة مريم. تألّق طبق فطائر السبانخ برائحته الرائعة وأخذ يثير شهية نور التي تعلم بأن جدّتها أعدّت هذا الطبق خصّيصا لها. وفي وسط اندفاع نور لإنهاء الطبق، أوقعته أرضا فتهشّم إلى قطع صغيرة. شعر الوالد بالغضب فهو يعرف أن هذا الطبق المنقوش بالورود الذهبية غالٍ على قلب والدته لأنّها ورثته من أمها، وكانت تحب تقديم الفطائر فيه. رفع يده ليضرب من سبّبت له هذا الحرج، وقبل أن تلامس يده جسدها الصغير ركضتْ بفزع نحو الجدة ودفنتْ رأسها في صدرها باكية، فغضبت الجدة من ابنها ولعنت الطبق الذي أنزل دموع حفيدتها الغالية.

بعد مرور ثلاثة وعشرين عاماً على هذه الذكرى ورحيل جدتي عن الدنيا، ما زلت أذكر هذه الحادثة بتفاصيلها كلما شممتُ رائحة عطر العود، فعندما احتضنتها خائفة من عقاب أبي، شعرتُ بنوع من الاسترخاء والسكينة لجمال العطر المنبعث من صدرها الحنون، وتمنيت لو بقيتُ في حضنها للأبد أسبح في عوالم هذا العطر السحري الدافئ. وبسبب سذاجة الطفولة فقد اعتقدتُ دائما أن جدتي تُصدر هذا العطر من جسمها فصدّقني أصدقائي بالصف الأول عندما حدّثتهم عن هذا السر وبدؤوا بشمّ جداتهم. وعندما بلغت الخامسة عشرة، أهدتني جدتي زجاجة عطر العود خاصتها وأخبرتني أنّ بينها وبين هذا العطر حبّ من نوع آخر لكنها تحبّني أكثر منه.
بيت جدتي كان ملتقى الأحباب في كل خميس، فهناك أبناء جيرانهم الذين يقاربون عمري. وأحيانا يأتي عمي الذي كان يسكن في مدينة بعيدة فألتقي بأبناء عمي ونقضي كلنا أوقاتاً طيبة في اللعب، وقد كنت ألمح خيال جدتي من وراء الشباك يطمئن علينا بين الحين والآخر. وبعد الغداء كانت تكرمنا ببعض النقود فنركض إلى الدكان لنشتري ما يسوّس أسناننا ويلوّن لساننا بأزهى الألوان الصناعية. بيت جدتي كان يعجّ دوماً بمختلف الروائح كرائحة النعناع الذي تزرعه في حديقتها الصغيرة، ورائحة القرفة والهيل التي تنبعث من مطبخها المرتب. أما غرف البيت فكانت مملوءة بأعواد البخور الهندي - الذي تؤمن جدتي تماماً بمفعوله القوي ضد الحسد - كانت تثبّته في فتحة الباب التي يدخل فيها القفل وقد وضعت أسفل منه سلة مهملات صغيرة حتى لا ينزل رماد البخور على سجادها الغالي فيحرقه. ولم نكن وحدنا نحن الأحفاد من يجد الملاذ والحنان الكامل في بيتها، بل نافستنا في ذلك قطط الحي التي كانت تتجمع عند باب بيتها لتأكل ما وضعته لهم من بقايا السمك والدجاج.

في ساعات الصفو التي يتمنى فيها الإنسان أشياء غريبة أو مستحيلة، أجلس على الكرسي الهزاز - وهو مع عطر العود كل ما أمتلكه من بيت جدتي الذي لم يعد موجوداً - أُغمض عينيّ وأفكر في آلة الزمن التي أتمنى لو لم تكن مجرد أمنية بشرية قديمة. أتخيل فيما لو تم إيجادها يوماً واستطعت اقتناءها فسيكون أول شيء أرجع إليه هو بيت جدتي بلا ريب! فداخل بيتها القديم أتخلص من هموم الدنيا وأرتاح قليلاً من سباق الحياة المُضنك.

أفتح عيني فأفيق من هذا الخيال، أتجه إلى غرفتي وأتعطّر ببعض قطرات من عطر العود الذي أهدته لي، فأشعر أنّ الدنيا مازالت جميلة.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 8:43 م

      مع تقديري الشديد للكاتبة وتمنياتي لها بمستقبل مشرق
      الا أن هذا النص الذي بين أيدينا لا تنطبق عليها شروط القصة القصيرة التي تعتمد على التكثيف والاختزال دون اخلال
      هذه أقرب الى فن المذكرات الشخصية ..
      يجب عليك ان تقرئي أكثر في جانب القصة القصيرة لتلمي بشروط كتابة القصة القصيرة
      انتي تمتلكين قلما رائعا واسلوبا جميلا ولكن كما اخبرتك هذا النص لا يرتقي لمرتبة القصة القصيرة .
      ماجد عبده

    • زائر 2 | 11:22 ص

      أحببتها جدا. فيض مشاعر صادق ذكرني بجدتي رحمها الله. دام قلمك

    • زائر 1 | 1:11 ص

      هذه ليست قصة بل هي خاطرة.

اقرأ ايضاً