العدد 41 - الأربعاء 16 أكتوبر 2002م الموافق 09 شعبان 1423هـ

قناديل بوسعد... حالات إنسانية تواقة للأمل

تحتضن جمعية البحرين للفنون التشكيلية وحتى الرابع والعشرين من الشهر الجاري معرض الفنان البحريني إبراهيم بوسعد «قناديل» في تجربة مغايرة تكنيكا عما ألفناه في أعماله السابقة، وإن كانت المرأة لاتزال محور اشتغال، ووسيط نقل للعذابات والهموم الإنسانية، وللعشق سواء بسواء.

بوسعد لعب هذه المرة على تبادلية العلاقات بين الأسود المكتنز في علاقته ببياض الورق، وجمع أشتاتهما معا بحيز رمادي، أعطى أعماله قوة بصرية لافتة في تكويناته المختلفة لتقنيات اللعب بالضوء والظل في سياق عام انتصب فيه الألم شاخصا.

قناديل بوسعد محاولة جديدة للتعبير عن المرأة مانحة الحب وماسحة الألم، لازمها طير منذ تجربة إيماءات 2000 واشتبك معها، وتماهى في أحايين كثيرة، ليصبح مقاسما إياها مساحات الفضاء العام، ومتراسلا معها في قوة الأداء التعبيري، وفي مختلف الكوابيس والدموع والحب المشع منها، وفي مساحات جنين وأعراسها وقوافل الشهداء، وفي قبل الغياب، ومسك الحب، كما في الحب والعشق والحلم وتأوهات الفؤاد.

وللأسود والأبيض حكاية مع بوسعد يقول عنها: في فترة الاعتكاف والعزلة التي أعيشها، وهاجس الزهد أو التصوف الذي يحيط بي، انتقل هذا التأثير المباشر إلى اللوحة وهذا أمر طبيعي، فكان الأسود بدرجاته في حال حوار مستمرة مع بياض الورق.

وحول هذا الزهد اللوني بعد تجارب كثيرة كانت ألوان بوسعد فيها ذات خصوصية وعمق وبشكل صارخ أحيانا يقول: هذه التقنية من أخطر التقنيات لجهة التعامل اللوني، إذ تتقلص فرص اللعب على موتيفة البهرجة اللونية، وهي بدورها لا تني تجذب المتلقي، وتمنحه انطباعا جماليا من نوع ما، حتى لو كان زائفا. لكن الأسود لا يعرف أنصاف الحلول، فلا قيمة له دون الأبيض... وفي هذه الحال هل ثمة حاجة ماسة إلى الرمادي، وهل هو ضروري ذلك اللون الذي ارتسمت قيمته الاجتماعية في إطار أخلاقي معين يصنف على الدوام في حيز الخبث والرياء و«اللعب على الحبلين». تلك كانت مقولة المعرض في بدعه الإبداعي التي أثبت خلالها مدى الدور الحاسم للرمادي في إيلاء اللوحة أبعادا بصرية مضاعفة، فأبرز من قوة حضور ثيمة المرأة تجسيدا وموضوعا، سألناه عن هذه اللازمة التي أصبحت مفردة مفرداته الرئيسة، فقال: حضور المرأة شديد القوة، فهي إنسان عظيم خصوصا بالنسبة إلى الرجل إذا ما كانت طاغية الأنوثة والحنان، وكذلك الحال مع الطائر المنفلت الذي لا تحده دلالة، ولا يشير إلى مسألة بعينها، إنه الطائر المرتبط بالأرض والسماء معا مفتوح التأويلات. كما تبرز المرأة في التجربة محورا للكون، وتتجسد في حالات كثيرة، حاملة لمعاناة ومتشحة بانكسار، ومرة أخرى تتغلب عليها حالات الأمل وتطغى... والزائر للمعرض يستشف خلال اللوحات الـ 47 كيف أن المرأة والطائر في علاقتهما الواضحة المتفاعلة، والملتبسة في لوحات معينة، قد عكست شيئا من هاجس القضية الفلسطينية، حتى في حال اقتراح المشاهدة من دون العودة إلى عناوين اللوحات، ثمة حضور مخصوص، حتى في حالات الغناء، وفي ذلك يعلق الفنان: التجربة في بعض تجلياتها إعادة تمثيل للحال الفلسطينية في ظل الأوضاع الأخيرة... فقد وقفت الصورة الإعلامية أمام اللوحة حجر عثرة إذا ما أرادت أن تكون تسجيلية وتقريرية إزاء المشهد البليغ الذي تنطق به الصورة، ولذلك أصبح من غير المجدي رسم أشلاء متناثرة، أو تصوير صراخ وعويل، فالصورة المتلفزة أصبحت أكثر بلاغة، وهذا ما حرضني ودفع بي إلى إعادة ترتيب المساحات والتكوينات لتقف وراءها حمولة تأخذ بعدا فكريا وفلسفيا، لذلك سميت المعرض قناديل، والقناديل هم أبطال العمليات الاستشهادية الذين زرعوا في نفسي بهجة وتفاؤلا لم أعرفه منذ 40 عاما... على رغم المعاناة، والخسائر الفادحة، لكن هذا الإنسان كالشجرة التي ما إن تقطع حتى تعود فتورق وتصبح أكثر قوة وصلابة... هذه الشجرة/ الشجرات كلها، هي قنابل موقوتة ستهز أرجاء هذا الكيان.

وبهذا المعنى فإن عمل بوسعد سواء كان في قناديله، أو فيما سبق من تجارب التزام روحي قبل أن يكون أي شيء آخر، يتخلله بحث فكري من منطلقات إنسانية أخلاقية - كما يفضل - يقول في ذلك إن هذا حصيلة قلق مستمر عمره ناهز الآن العقد الثالث من العمل المتواصل، وكنتيجة للمخزون الفكري والتقني، أُقدم أحيانا على الرسم بتلقائية، وأحيانا بشكل لا إرادي، لكن في إطار محسوب من التكوين والخطوط والدرجات اللونية.

معرض بوسعد يستحق المشاهدة لبساطته، واكتنازه، واحترافيته في التعامل مع المساحات، حتى لو كانت في أضيق الحدود، تجربة جديدة تضاف إلى رصيده الزاخر، وجسارته في قراره بأن لا شيء أهم من الفن في هذه الحياة

العدد 41 - الأربعاء 16 أكتوبر 2002م الموافق 09 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً