العدد 5236 - الجمعة 06 يناير 2017م الموافق 08 ربيع الثاني 1438هـ

المباراة الأخيرة

من لوحات الفنان الروسي فلاديمير كوش
من لوحات الفنان الروسي فلاديمير كوش

حينما انبعث رنين الهاتف في ذلك الصباح خفق قلبي وتوجست شراً. فلم نعهد أن يتصل بنا أحد في مثل هذه الساعة المبكّرة، وفي يوم إجازة كهذا. هُرعت زوجتي إلى السماعة وبعد برهة قالت: والدك يريد أن يتحدث معك.

- جئت وقلبي يرتجف متوقعاً أن أسمع شيئاً غير سار.

- أهلاً أبي العزيز.

- محمد، تعال إلى البيت الآن.

- ماذا حدث؟

- ابن عمك كريم أعطاك عمره.

أحسست بالغصة لكني تمالكت نفسي وقلت: لاحول ولا قوة إلاّ بالله.

كلنا نعرف أنه سيموت قريباً لكننا كنا نرهب تلك الساعة، نتمنى ألاّ نسمعها أو على الأقل تأجيلها لبعض الوقت وعلى رغم أننا نتوقعها في أية لحظة إلاّ أننا نرفضها داخلياً، نستنكرها، لا نريدها أن تقع.

كان شجاعاً جسوراً صارع الموت ببسالة نادرة ولم يكن خائفاً منه أبداً. كان يردد أمام زائريه بأنه سيتوجه مرة أخرى لأداء فريضة الحج برفقة أخيه وسيرشده إلى المناسك بنفسه. كان متفائلاً بقول الطبيب بأنه سيأذن له بالخروج بعد اسبوعين وسيتمكن من قضاء بقية شهر رمضان وسط عائلته وأحبابه. كان يسخر من المرضى الذين يستسلمون لأفكارهم السوداء ويقعون ضحية التشاؤم فيتوهمون أنهم سيموتون خلال وقت قصير. كان يتحدى جرعات العلاج الكيماوي وأكياس صفائح الدم وأكياس المغذي والحقن الموجعة والحبوب المرّة والدماء النازفة. نعم كان صلباً حتى في أحلك الظروف وأصعب الأوقات على رغم اشتداد المرض وويلاته.

إيمانه بالله كان قوياً وعزيمته لم تكلّ .

درجت على زيارته في المستشفى وفي الحقيقة أن جميع أهل القرية، جميعهم دون استثناء، دأبوا على زيارته مرة واحدة على الأقل كل اسبوع. كان محبوباً لدى الجميع، الشباب والكبار، وحتى الأطفال، فقد بهر الجماهير بفنونه وقذائفه المسدّدة على المرمى. كان قائداً للفريق طالما أدخل البهجة في نفوس جمهوره وأسعدهم. عندما تصل الكرة إلى قدمه يقف كل المتفرجين على أرجلهم ويهيئوا أنفسهم لمشهد عامر بالإثارة. كان عملاقاً له هيبة في الملعب يعترف بها الخصوم قبل الأصدقاء. مازال صراخه على زملائه ونخوته على الفريق من السمات الباقية لشخصيته.

في ليلة زواجه شهدت القرية عرساً لا مثيل له، اكتظت بآلاف المهنئين الذين زفوه زفة رائعة لاتزال ملامحها طريّة عبر طرقات القرية ووسط دقات الطبول والصلوات والأناشيد الدينية والأغاني الشعبية.

كان كريم إنساناً فقيراً لم تسمح له الفرصة لإكمال تعليمه فاتجه نحو الأعمال الصغيرة. تاه من مؤسسة إلى مؤسسة ومن دائرة إلى أخرى، تقاذفته الحياة حتى استقر به المطاف في المصهر. سلبه المصهر زهوة شبابه وأفقده بريقه وعنفوانه، فتركه زهرة ذابلة، بائسة، لاحول لها ولا قوة.

في ليلة العيد سمح له الطبيب بإجازة قصيرة بين عائلته كي يفرح ويستمتع بالعيد معها. لكنه ما أن جاء إلى البيت حتى انتكست حالته فنقل مرة أخرى إلى المستشفى.

وعقب ليال معدودات، حينما أقبل شقيقه لزيارته، كان وحيداً في وحشته وعذابه، ينتظر أن يأتيه أحد أقاربه. مد يده وهو يتلوى من الألم، يريد أن يقول شيئاً، حاول جاهداً لكن لسانه كان ثقيلاً وعجزت الكلمات أن تخرج. أمسك شقيقه وتشبث به بقوة وظلا يبكيان معـاً. عندها جاء الطبيب وقال: سنوقف الأجهزة، لا فائدة منها الآن، سأعطيه إبرة مهدئة تخفف عليه الآلام.

طيلة أيّام التعازي حرص الأصدقاء والكثير الكثير من المواسين على الحضور ومشاطرة أهله الأحزان واسترجاع ذكرياتهم معه، منذ صحبة الطفولة ومزاملته في لعبتي التيلة والدوّامة، والسباحة في عين مليح وعين عذاري، ومنذ نشأة فريق كرة القدم الذي شهد بداياته وتألقه. هذا صديقه وجاره الوفي عدنان، رفيق الحيّ الذي صاحبه في فريق النادي، يذرف الدموع بحرارة، كان ملازماً له في محنته يتردد عليه في المستشفى كل ليلة ويقضي حاجاته الشخصية والأسرية، وهذه هي العائلة التي وقفت إلى جانبه ومدت له يد العون وسافر بعض أبنائها معه إلى الرياض طلباً للعلاج. كل أفرادها كان لهم دور في المساندة والتضامن. وهؤلاء هم الأصدقاء والأقارب وزملاء الفريق يؤدون الواجب ويعربون عن حزنهم الشديد.

في اليوم الثالث طلب أحدهم مواصلة مراسم العزاء لثلاث ليالٍ إضافية تكريماً لهذا الرجل فوافق الجميع. وفي هذه الليالي استرجعوا حكاياتهم القديمة مع كريم وأحضروا بعض الصور التي تجمعهم معه. فأحضرت أنا صور زفافه الذي لا ينسى التي أحتفظ بها في البوم عتيق، وأريتها لأصدقائـه ومعارفه، فاستعدنا ذكريات ذلك الزفاف الذي كان حديث القرية بأسرها.

ويبقى صوت كريم يشق عنان السماء شجاعاً. لقد لعب مباراته الأخيرة بمهارة فائقة، تألق فيها، سجل أهدافاً كعادته، وأبهر الجميع كعادته.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً