العدد 5257 - الجمعة 27 يناير 2017م الموافق 29 ربيع الثاني 1438هـ

قصة قصيرة... أبي

طارق محمد إبراهيم - قاص مصري 

تحديث: 12 مايو 2017

 

كنت أحب كثيراً أن أزور صديقتي ريهام، لأرى ياسمين الصغيرة.

بضحكتها الصاخبة، وثرثرتها المحببة، وبهجة الدنيا كلها التي تحملها... لكن الزيارة الاخيرة كانت مختلفة.

فالبيت السعيد لم يعد كذلك... ساده الصمت منذ أن وقف عادل يتأنق طويلاً أمام المرآة، كأنه يرتدى بزته العسكرية للمرة الأولى، ثم خرج ولم يعد!

وريهام قد صارت كالميتة... يؤلمها وقع كلماتهم؛ عن هجمات الدواعش في سيناء، وجائزة الشهداء، وأجر الصابرين.

وياسمين الجميلة قد كفّت عن الضحك، وعن الكلام... أمست الدموع وعيناها لا يفترقان...

تسألني السؤال الذي أخشاه:

"طنط هو بابا هيرجع امتى؟!"

تسألني: أهو يخاصمها؟ تحكى لي كم تفتقده، وأنها تنتظره كل يوم ليعود، ومعه الفستان الاحمر الذي وعدها به... لا تطيق صبراً لتريه رسوماتها، و لكى يجعلها تطير كما فعل من قبل.

فاطرق، وأقول لها:

- بابا راح عند ربنا يا حبيبتي... هو دلوقتي مع الشهدا فى السما!

كنت أعرف أن تلك الكلمات لن تسكت وجيب قلبها المشتاق لأبيها؛ فقد كانت هناك طفلة صغيرة، ذهب أبوها إلى حرب أكتوبر العام 1973، ولم يعد... جاءتها أمها يوماً، وقالت لها:

- بابا مش هيرجع يا حبيبتي... بابا راح عند ربنا، هو دلوقتي قاعد مع الشهدا في السما!!

لكن الطفلة لم تفتأ تعود لتسأل:

- هو بابا هيرجع امتى؟!

كلما دق جرس الباب جرت إليه، واثقة من أنه جاء، حاملاً معه الفستان الأحمر الذي وعدها بشرائه لها من أجل العيد.

لكنه لا يأتي أبداً، وهي لا تكف عن التفكير أن الباب سينفتح يوماً، ويدخل عليها مبتسماً... حتى بعدما مرت أربعون عاماً.

هذه الطفلة هي... أنا!

الأحداث تتكرر بشكل عجيب، تكاد تكون متماثلة!

***

أتأمل زوجي وأولادي، واستغربهم.

نعم كبرت وصرت أما، لكنني لازلت تلك الطفلة الساذجة، وأفتقد أبى بشدة.

كم أتمنى لو عدت يا أبتاه!

***

وكأنه قد سمع ندائي تلك الليلة!!

كنت بين الوسن والنوم عندما دق الباب... فقمت مسرعة، وأنا أهتف:

- بابا جه... بابا جه.!!

وكان هو بالفعل... أتى حاملا الفستان الأحمر الموعود.

غصت في أحضانه، وأنا أقبله بشوق شديد... ثم ارتديت الفستان وأنا أطير فرحاً، بينما أتأمل نفسي في المرآة.

كنت مشتاقة إلى أن أطير، فأخذت يده، وجذبته لنصعد إلى السطح.

وهناك قال لي أن أمسك يديه جيداً، وأن أغمض عيني.

أخذت أنفاسي تتسارع، ومعها دقات قلبي... كلى احاسيس طفلة.

سألني بابتسامة:

- جاهزة؟

فأومأت برأسي متحمسة، ثم طرت.

لم تعد الأرض تجذبني، بعدما تحولت إلى عصفورة.

تعالت ضحكاتي وأنا أرى كل شيء بوضوح، دون أن أفتح عينيّ.

أخذت أعبر فوق السحاب، وأسابق أسراب الطيور، وأقترب من الشمس دون أن أخاف مصير إيكاروس! (1)

فجأة فتحت عيني، فوجدت أبي قد اختفى.

فزعت، شعرت أنني لم أعد قادرة على الطيران، بعد ان تركني وذهب.

وجدتني أسقط.

صرخت فى رعب، وأنا أقترب من سطح بيتنا بسرعة.

وفى اللحظة التي أوشكت أن أصطدم بالسطح، وجدتني أقع بين أحضانه، وهو يدغدغ أنفي بأنفه ملاعباً!

***

وفى الصباح كنت أشعر بسعادة كبيرة تغريني بنسيان الدنيا بما فيها... بيد أن الواجبات الملقاة على عاتقي؛ دفعتني إلى النهوض مسرعة، عندما دق الهاتف، ليأتيني صوت ياسمين كما اعتدته؛ فرحاً، متلاحق الكلمات.

كانت تحكى لي بسعادة عن أبيها، الذي أتى ليلة أمس... ولم يفتني وأنا أسمعها، أن ألاحظ الفستان الأحمر، المعلق على المشجب هناك!!

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تحكي أسطورة يونانية قصة إيكاروس، الذي كان محتجزاً وأباه في متاهة جزيرة كريت عقاباً لهما من ملك الجزيرة مينوس.

للهرب من عقاب مينوس، استعان الاثنان بأجنحة ثبّتاها على ظهريهما بالشمع. أثناء هروبه من منفاه المتاهة، حلّق الابن إيكاروس قريباً من الشمس، متجاهلاً نصيحة والده، فهوى صريعاً بعد ان أذابت أشعة الشمس الشمع المثبّت لجناحيه.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً