العدد 5271 - الجمعة 10 فبراير 2017م الموافق 13 جمادى الأولى 1438هـ

لوحة شبه مكتملة

لوحة للفنان نادر العتيبي
لوحة للفنان نادر العتيبي

جهول

تعودت الاختباء في زاويتي المُظلمة، في هذا الركن البعيد، أنفرد بالحلم فأخط حزني وحزن همّ أعرفه. في هذا الركن، كل شيء يتخلّى عني، من قطع ملابسي حتى الشعر الملتصق بجلدي. كل شيء إلا هو. مجهول أعرفه ولا أعرفه. هو طفل يرضع مني وينام في حضني وحبيب أسكن اليه. كلما يكبر يتسع المجهول وازداد عذاباً وكهلاً يمدّني بخبرات السنين. هذا الطفل الرجل الكهل هو من زيّن لي هذه العينين وهذه الشفتين وأعطاني سر الكينونة لأصير أنا. صرت. وظل هذا المجهول يُحاصرني فازدادت زاويتي المظلمة عتْمة واتساعاً.

توحّد

كانت لحظة وليتها لم تكن، تفجّر الحب بين أبي وأمي، صار الجسدان جسداً واحداً. أعرف بأنها من أجمل اللحظات بينهما فقد تداخلا مسكونين بالأنانية وحب الذات، وفي غفلة منهما أنجباني. بذراً لآلامهما ومرض عشّش في نفسيهما، ليس في جسدي فحسب بل في هذه الجمجمة الصغيرة، أنجبا للعالم مجهولاً آخر لتزداد العتمة ويضيق الركن من جديد، نذراني للعذاب قبل أن أنادي على القابلة بأن تتلقّف رأسي الصغير، أذكر بأن القابلة يومها صاحت بأمي: «يا إلهي، طفلتك تضحك»، فكان فألاً سيئاً وقد استبشر والدي شراً ولم يعلموا بأنها كانت المرة الوحيدة التي سأضحك فيها طوال عمري.

تمرّد

هو يميتني ويحييني كل يوم ألف مرة.

حين شاركني الركن، تعرّفنا بوضوح على طقوس الحب التي كانت حلماً، كان هو طفلي الوحيد الذي مارست معه الحب فاتسع الركن وازداد الطفل عذاباً. كانت ممارسة الحب بيننا إشعالا للعذاب ورقصاً فوق الرماد. قهقهت ذات مرة وأنا في حضنه، كيف لهذا العالم المبني بحفظ من السماء ينهار خاوياً تحت قدمينا، ومرة بكيت مخافة أن يصاب هذا الحب برصاص قناص آت من الجزر المستباحة. هو نجم لا ينطفئ إلا عندما أشتعل أنا.

نداء 1

أمي، ابي، أخرجاني من رأسي.

أمي، لم تعلميني سوى مخاصرة الدمعة.

أبي، علمتني كيف أنزف قوتي في التشبّث بالحلم الذي يعلن ضعفي.

لوحة شبه مكتملة 1

مرة، حين ضقت بعتم زاويتي، لملمْتُ بقايا جسدي ومشيت باتجاه مبنى مذاهب التعليم الحديثة، عل تكنولوجيا البلد تضيف إلى رأسي شيئاً غير ألم الذاكرة. دخلت، اندهشت قليلاً فقد كان الوقت نهاراً لكنه في ذاك المبنى فجراً. دخلت ومعي صديقتان لا تعرفان عني سوى شكلي، توسطتهما، لم تنحجب الرؤية رغم ظلام الفجر، مشينا باتجاه مكان معين، فجأة شدّني شيء لا أدري ما هو وحين التفت يميناً رأيت لوحة بيضاء مخطوط فوقها بالأسود العريض: «المبنى مدسوس بالسود المجانين». ما هذا؟ الغرابة تلف كل شيء تطأه قدماي، اللعنة. اخبرت صديقتي، اشتعلتا خوفاً، ركضنا نسابق الريح وتحت أحد السلالم فاجأنا ظهور ثلاث جباه سوداء اختفت بسرعة حين رأتنا.

أمي كانت تحب اللون الأسود. اخي مات ولأول مرة أشاهد نعشاً ملفوفاً بالسواد.

غيّرنا وجهتنا في دروب كنا نعرفها وكانت أليفة. واليوم الدروب ليست هي، تضيق علينا ونحن نسرع الخطى واللوحة البيضاء بكلماتها المروّعة تفاجئنا في كل مكان من هذه الدروب، الخوف صار جلودنا والقيامة ما عادت في علم الغيب، رمالاً صفراء تجري تحت اقدامنا كمياه البحر الآسنة.

أبي كان بحاراً، عانق البحر سنيناً، أترف خيالي بحكاياه الغريبة، خيال أبي والبحر عالماً صاخباً من الألوان. أذكر مرة طلبت منه أن يصحبني معه الى البحر، توقعت الرفض لكنه قال: إنك في البحر يا ابنتي، ما البحر إلا عذاب جميل لا يميت، أنت صغيرة ويكفيك العذاب الذي بذرناه داخلك. يا إلهي، أبي أعادته دروب البحر إليّ. كم تألمت لحظتها فقد كنت أظن أنه لم يعرف سر ضحكتي في وجه القابلة، ساعتها عرفت كثيراً، عرفت أنه يذهب للبحر ليمنحه عذابي.

ترتفع الجدران على جانبينا وتطول، تطول وتضيق وعند نهاية الدرب المخيف ضاقت حتى كاد مرور جسد واحد أمراً مستحيلاً. مررنا بسرعة، الواحدة إثر الأخرى كي لا ينغلق الطريق، طلعنا على فسحة بسعة السماء ومجموعة ضخمة من السود المجانين في حلقة رهيبة الاتساع ممسكين بأيدي بعضهم البعض يرقصون ويضحكون بحركات غريبة وكأنهم لا يمتّون الى كوكبنا هذا بأدنى صلة، وعندما رأونا قاموا جميعهم في قفزة واحدة وكانت هي القيامة. يتقدّمون منا ونحن نتراجع الى الوراء، يتقدّمون بمهمهات أشبه بصوت تهدم جبال رهيبة، فجأة وجدت نفسي لوحدي، أين صديقتاي؟ أنا وحدي، وحدي!

وقفة

سمعت مرة إن أمي كانت قرنفلة الحي، وحين تزوجها أبي أنجبت ثمرة الحب، طفلة مجهولة الملامح وإن هذه الطفلة لم تبكِ لحظة ولادتها لأنها فوجئت بعظمة جمال أمها. أمي كانت جميلة، فتّتها الحزن والقهر، لأن البحر سرق والدي منها وفي تلك اللحظة أنكر الحي أمي وقالوا عاشقة.

لوحة شبه مكتملة 2

كيف أصبحت وحدي؟ يتقدّمون متجمهرين، فوجئت بالتصاق قدمي بالأرض. إلهي، ما هذا العجز؟ يتقدّمون وأنا لا أتحرك، أصرخ، أضرب جسدي كي يتحرك.

صرخت من جحيمي فتوقف كل شيء: جماد. رأيت جباهاً فاحمة السواد ترتفع، تشق الأرض من تحتي وتبرز خارجة للعدم وأنا أرقب بذهول، كانوا ثلاثة، سقط منهم اثنان واستمر ثالثهم في الارتفاع. أسود كالموت، شعره طويل ووجهه غريب غريب. وما إن توقف بثبات أمامي حتى تحوَّلت ساحة المبنى إلى بركة من الدماء.

سؤال

أبي، لماذا تبكي عندما تدخل البحر؟ أعرف أن الذين يقصدون البحر يرجعون بصيد من الأسماك أو غيرها من الخيرات، لكنك يا أبي لم ترجع لنا بشيء من هذا ولا حتى مرة واحدة. عرفت مؤخراً أنك لا تذهب لكي تصطاد. بودي لو أعرف ما السر الذي يدفعك الى البحر كل يوم، كل يوم، ما هو يا أبي؟ ماذا تدفن في هذا المجهول؟

نداء أخير

لم أملك كبت جماح أصابع يدي وهي ترتفع الى جلدة وجهي وتمزقه، يا أمي، يا أبي، يا أنت، لماذا لا تنتهي العتمة؟ ولماذا يكون البله سيداً يجوب الأرض؟ يا أمي، يا أبي، يا أنت، كيف يلتهم البحر سرك؟ ولماذا لا ينتهي الحزن وتشرق قرنفلة الحي مرة أخرى؟

عندما يهدأ كل شيء، كل شيء حتى الأنفاس تبدأ القيامة.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً