العدد 5273 - الأحد 12 فبراير 2017م الموافق 15 جمادى الأولى 1438هـ

بين المنتصرين والمهزومين... سجِّل أيها التاريخ

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يقول ضابط (سوفياتي سابق) يُدعَى فلاديمير توروف إنه كان شاهداً على «حادث مأساوي» في معركة ستالينغراد أثناء الحرب العالمية الثانية. يروي توروف قائلاً: «اقتَحَمَت وَحَدَاتنا إحدى القرى في ديسمبر/ كانون الأول سنة 1941. كنا نظن أننا سنلحق بالوَحَدَات الألمانية (النازية) وندمّرها، لكننا لم نستطع أن نحقق ذلك خلال فترة الليل، فانسحب الألمان وهم يَسُوقون السكان المدنيين معهم.

اندفعنا مع الوَحَدَات إلى الأمام ووصلنا إلى إحدى القرى الروسية التي أخلاها الألمان وهم ينسحبون، وما إنْ دخلنا القرية وإذا بأحدِ الجنود يصيح منادياً: أيها الرفيق الملازم، الموقد في هذا البيتِ مازال مشتعلاً، فأسرعتُ باقتحام المنزل من الجهة اليسرى. كان منزلاً جيداً بمدخلٍ مرتفع، ركضتُ إلى الداخل فرأيتُ على الطاولة طبقاً صغيراً ألمانيا وبه شمع، كان يُستخدم للإنارة.

نظرتُ إلى الأرض، فرأيتُ امرأة تمدّدت ورأسها إلى الأسفل، وتحت رأسها لاحَت بقعة داكِنة كبيرة. فوجدتُ في رأسها ثقوباً أحدَثها الرصاص، أما على الطاولة حيث كان طبق الإنارة فقد لاحَت كتلة رمادية أخرى، وكذلك على الجدار، فوق أرِيْكَة صغيرة كانت بقعة كبيرة حمراء مماثلة. نظرنا ما في هذه الأرِيْكَة، فوجدنا جَسَدَ طفلٍ رضيع عريان، بساقٍ ممدودة بصورة غير طبيعية ورأسه مُهَشَّم. لقد قَتَلَهُما الألمان قبل انسحابهم. حطَّموا رأس الرضيع على الجدار فيما يبدو ثم قتلوا أمه».

هذه الرواية المؤلمة ذكرها أحد أطراف النزاع وما شاهده من عدوّه من وحشية قلّ نظيرها. دعونا الآن نأخذ رواية من الطرف الآخر وهم الألمان بشأن قضايا أخرى، ولكن ليس من ضابط أو مسئول سياسي بل من إحدى النساء الألمانيات المدنيات. فخلال قراءتي ليوميات الصحفية الألمانية «مارتا هيلرس» تحت عنوان: «امرأة في برلين... ثمانية أسابيع في مدينة محتلة»، التي عاشت احتلال الجيش الأحمر للعاصمة برلين، وَقَفتُ على «انتهاكات» اقترفها الجنود السوفيات عندما دخلوا ألمانيا.

بدأت هيلرس تدويناتها من 20 أبريل/ نيسان سنة 1945، وكانت تتعمّد أن تكتب بعبارات مبهمة خشية أن تُكتَشف ثم تُعتَقل، وبعد أن استقرّ بها الحال قامت بتعديلها. كانت تتحدث عن عمليات الاغتصاب التي تعرّضت لها النساء الألمانيات، وكيف كانت أبواب الأقبية تُكسَر. وقد وصل الحال كما تقول إنه «ليس هناك رجل يفقد هيبته لمجرّد أنه ترك امرأته أو جارته للمنتصرين»!

كانت تصف الأبنية وهي تحترق كشعلة، وأن محاولة إطفائها هو كالبصق في النار. كانت تتحدث عن الرجال الألمان وأنه «لم يُترَك لهم شيء يتمنونه أو يتوقعونه» تصف الأجساد وهي مغطاة بـ «الطين» ووجوههم «فارغة من ضمادات ملطخة بالدم» على أثير المدافع التي «كانت تنبح». بالتأكيد لم يكن هناك فرصة للثأر سوى «بالسخرية منهم، من هؤلاء الذين أذلّونا» كما تقول.

هذا مشهد آخر قالته ألمانية بعد أن تبدّلت أحوال الحرب، وأصبح المنتصرُ النازي مهزوماً والسوفياتي المهزوم منتصراً. الآن سأروي لكم حادثة ثالثة جرت وقائعها في محاكمة الرئيس اليوغسلافي و «الصربي» السابق سلوبودان ميلوسوفيتش، يرويها الجنرال الرئيس الأسبق لإدارة العلاقات الدولية في وزارة الدفاع ورئيس الأكاديمية الجيوسياسية الروسية ليونيد إيفاشوف.

ينقل الجنرال إيفاشوف أن أحد شهود الاتهام ضد ميلوسوفيتش كان شاباً من إحدى العرقيات التي كانت تعيش في يوغسلافيا. سألته المحكمة: «هل تؤكد أن سلوبودان ميلوسوفيتش أصدر أمراً بتنفيذ الإعدام؟ فقال الشاب: نعم. إنه شخصياً أمر بإعدامي رمياً بالرصاص. سألوه: هل لديك أدلّة ثبوتية؟

فأجاب: نعم، ثم أخرج «قميصاً عليه» ثلاث ثقوب عريضة مُدماة على مستوى الصدر، وأضاف: كنتُ ألبس هذا «القميص» عندما أطلقوا عليّ الرصاص. (حينها) سأله ميلوسوفيتش بأي سلاح أطلقوا عليك النار؟ فأخرج الشاب ورقة من جَيْبِه وقرأ منها قائلاً: عيار 14 ونصف الميليمتر».

والمعروف بحسب قول إيفاشوف: «إن رصاصة بهذا الحجم تُمزق البدن تمزيقاً ولا تُبقِي فرصة للبقاء على قيد الحياة». ثم يضيف إيفاشوف «سأله ميلوسوفيتش: كيف بقيت على قيد الحياة؟ فقال الشاب: بمشيئة الله». وبحسب الجنرال ليونيد إيفاشوف الذي كان (بالإضافة إلى منصبه) أحد شهود الدفاع في القضية الأساسيين فإن «إفادة هذا الشاب العجيبة والغريبة أُدرِجَت ضمن مواد الدعوى بصفة أحد الأدلة الثبوتية». انتهى.

الحقيقة، أنني أضع هذه الروايات الثلاث للتأمّل فقط لا أكثر. فما أريد أن أُسَجِّله هنا هو ما يحدث «عادة» في سلوك المنتصرين في أيّة معركة سياسية أو عسكرية مصيرية وكيف يُسجَّل، ما جعل التاريخ يئِنّ تحت وطأة هذه الأحمال التي لا يستوعبها عقل ولا يقدر عليها قلب.

فالمنتصر بـ «القوة» يرى في خصمه رقماً زائداً في كل شيء. فقتله والتمثيل به أو الاعتداء عليه وعرضه وما يمتلكه هو أمر «عادي» بالنسبة له. أما في الحقوق والالتزامات وغيرها فحدّث ولا حَرَج، بل يرى أن أيّ شيء معه غير الانتقام شيء من الشفقة والعطف منه، على رغم أن كل المواثيق والمعاهدات تُقرِّر ذلك للمهزوم. هذه مشكلة أخلاقية لا يبدو أن له حيّز جغرافي دون آخر إلاّ ما رحم ربي. وهي تجعلنا نرى كيف تُداس المبادئ والقيم أمام نَهَم الغريزة المتوحشة.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5273 - الأحد 12 فبراير 2017م الموافق 15 جمادى الأولى 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 9 | 12:21 م

      شكرا أستاذي

    • زائر 8 | 4:45 ص

      مقال في غاية الروعة و التعليقات اروع .. الانسان مغرور و يحسب انه عندما ينتصر انما انتصر بقوته لا بقوة الله و ان لا يوجد فوقه احد ممكن ان يكسره مرة اخرى

    • زائر 6 | 1:17 ص

      كثير من قصص التاريخ للعبره لنا مقال جميل

    • زائر 4 | 12:44 ص

      مقال نشم فيه رائحة النصر والفرج

    • MahmoodAlsaei | 12:20 ص

      كل المنتصرين يبالغون في فرحة الانتصار ولا يعرفون حدودا أخلاقية أو إنسانية للزهو بانتصاراتهم ..
      إلا رسول الله صلى الله عليه وآله .. فقد أمره الله بعد النصر (إذا جاء نصر الله والفتح) أن يسبح ويستغفر (فسبح بحمد ربك واستغفره ..)

    • زائر 1 | 11:33 م

      صلى الله عليه نبي الرحمة فهو من قال "اذهبوا فأنتم الطلقاء".. وأعادها صاحبه من بعده ووليه عند فتح بيت المقدس عندما ترك للنصارى كنيسهم محجما عن الصلاة فيها لكيلا يغصبها منهم أحد في ما بعد..

اقرأ ايضاً