العدد 5289 - الثلثاء 28 فبراير 2017م الموافق 01 جمادى الآخرة 1438هـ

حلاوة العلقم

أحمد خضر أبوإسماعيل - قاص سوري
أحمد خضر أبوإسماعيل - قاص سوري

في كل صباح كانت تمقت صوت والدها الذي كان يقتلعها من فراشها الدافئ لتذهب إلى المدرسة، البرد في شهر يناير كان قاسياً جداً فمجرد أن ترفع الغطاء عنها كان الصقيع يفتك بقدميها الصغيرتين وترتعش بكليتها حالها حال من تدرع كأساً من الماء البارد.

الأصعب هو ارتداء ثياب المدرسة، فإزالة قطع القماش الرخيص التي تدثرت بها في ليلة الأمس هو فعلاً نضال حقيقي، فجسدها البض كان ينتفض وترتجف مثل طائر مذبوح، وسرعان ما ترتدي لباس المدرسة الموحد وتنسل تحت الغطاء مجدداً محاولة أن تعيد شيئاً من الدفء الذي افتقدته.

ولا تلبث برهة حتى ينتزعها صوت والدها مجدداً وهذه المرة كان يرفع الغطاء عنها ويحثها على العلم فهو الذي يريدها أن تجابه الحياة بشهادة لأنه عرف قيمة الشهادة بعد أن فاته قطار العمر وكانت هذه الطفلة هي الأمانة التي أودعها الله في رحم أمها منذ عشر سنوات واختبر صبرها ومن ثم جاء دوره لاختبار فقدها وترك قطعة من اللحم كللها دم نزيف أودى بحياتها.

الطريق إلى المدرسة هو مغامرة أخرى، برك الوحل كانت عبارة عن متاهة تحاول أن تحل لغزها في كل مرة تقفز عن ذات اليمين وذات الشمال لكن لا مفر من بركة جديدة تصطادها وتبل جواربها بماء بارد تنتج عنه قشعريرة تسري حتى ذروة الرأس، وإضافة على ذلك رائحة الجوارب التي كانت مصدر سخرية أمام زميلاتها اللواتي أنعم القدير عليهم بكل ما افتقدته.

كانت تجلس في المقعد الأول خلاف أبناء الذوات الذين اختاروا المقعد الأخير للضحك بعيداً عن رقابة المعلمة التي كانت قطعت تذكرة الزواج في وقت متأخر فلم يمنحها الله طفلاً، فكانت نظرتها إلى الطلاب نظرة حاقدة وكأنها كانت تحسد أهلهم واحداً واحداً، حتى طفلة المقعد الأول لم تشفع لها جثة أمها التي لم تراها قط، بل كان اجتهادها يزيد المعلمة حقداً على حقد، وكأنها كانت تتمنى لو أنها أنجبت طفلة مثلها.

كانت كلما صدر صوت في قاعة الدرس توجهت نحوها وفركت شحمة أذنها بقسوة حتى ذرفت إحدى عينيها دون أن تنبس ببنت شفة تحتمل الألم حتى تفرج عنها تلك المعلمة عقوبتها.

أنين أحشائها الخاوية كان أعلى بكثير من صوتها عندما تتحدث فصبرها على الجوع أفقدها الشعور بالألم.

شعرها المشرئب كان قد أتعبها فلم يبق لقب للسخرية إلا وأطلق عليها لكنها داخل الأحشاء الرحيمة أورثتها أمها الكثير من التسامح فكانت تتعمد ربطه بطريقة غريبة حرصاً منها على عدم كسب عداوة وعلى العكس كلما سخروا وضحكوا ابتسمت وضحكت، هي كانت تبكي دموعاً حارة في داخلها لدرجة أن هناك غصة بقيت تتعثر بها كلماتها أثناء حديثها معي.

أدركت مقادير الأحزان في ثنايا كلماتها وأحرقت مسمعي حين تحسرت على تلك اللحظات وقالت: يا سيدي الصحفي ما أجمل برد الشتاء وصوت والدي الذي افتقدته وما أجمل برك الطين في قريتنا ورائحة الجوارب المتعفنة وما أجمل قسوة معلمتي وسخرية زميلاتي اللواتي رفضوا صداقتي.

أشتاقهم يا سيدي الصحافي كلما نظرت إلى هذه الخيمة.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً