العدد 71 - الجمعة 15 نوفمبر 2002م الموافق 10 رمضان 1423هـ

من كان الضابط المتعامل مع حلقة كامبردج وما علاقته بالتحليل النفسي؟

سر يُكشف للمرة الأولى... فقط بعد سقوط الاتحاد السوفياتي

كيم فيلبي مات في موسكو بعد حياة صاخبة حافلة وصلت ذروتها حين افتضح أمر تجسسه لحساب السوفيات مطلع سنوات الستين، ثم تمكن من الهرب إلى موسكو انطلاقا من بيروت فأفلت من مصير كان يمكن أن يكون بائسا. ولكن حتى من بعد رحيل كيم فيلبي، وغيره من الرفاق في خلية كامبردج، ظلت الظروف التي بها تمت تعبئتهم وتجنيدهم، غامضة متعددة الروايات. ولقد احتاج الأمر إلى انفراط الاتحاد السوفياتي عند بداية سنوات التسعين، حتى تقوم مؤسسة التجسس السوفياتية الأقوى والأشهر (كي.جي.بي) بالكشف وبشكل تدريجي عن الأسرار المتعلقة بالبدايات كما كانت عليه في سنوات الثلاثين، حين جند طلاب كامبردج المتمردون ليتحولوا من مناضلين شيوعيين ماركسيين يؤمنون بقضية يناضلون بها ضد بلادة الطبقة المتوسطة الإنجليزية، إلى عملاء وأحيانا إلى عملاء مزدوجين.

ولقد جاء الكشف في مقالات نشرت تباعا كما يقول مؤلفا كتاب «التاريخ العالمي للاستخبارات»، منها ما يبدو أغرب من الخيال ومنها ما يبدو منطقيا يتقاطع مع ما كان معروفا من قبل. ولقد نشرت المقالات في مجلة اسمها «كوريير سوفيسكوي رازفدكي» (بريد الاستخبارات السوفياتية)، وحملت الكثير من التواقيع وكشفت عن الكثير من الأسرار. ومنها ما يتعلق بالجاسوس الشهير ريتشارد سورج، أو بـ «الأوركسترا الحمراء»، أو بكلاوس نوشس والعلماء الذين مكنوا الاتحاد السوفياتي من صنع قنبلته النووية الأولى (وهي كلها أمور سنعود إليها في حلقات لاحقة). أما الأغرب من بين كل تلك الدراسات وضروب الكشف، فكان ما يتعلق بسؤال ظل غامض الجواب لعقود طويلة من السنين: كيف جرى تجنيد جماعة كامبردج؟ ومن جندهم؟ وضمن أية ظروف؟

الاسم الحقيقي

لقد جاء الجواب، إذا، في المجلة الرسمية التي يصدرها جهاز الاستخبارات السوفياتي. وبات القراء يعرفون الكثير عن ذلك الرجل الغامض الذي قام بالعمل المذهل. وكان أول ما عرفه القراء اسمه: أرنولد هنريكوفتش دوتش... وهو اسمه الحقيقي الذي ظل غامضا لفترة طويلة. أما اسمه المستعار والذي كان يعمل به فكان معروفا إلى حد ما، وإن كان قليل من الناس قد توصل يوما إلى الربط بينه وبين ذلك العمل المذهل الذي تم في كامبردج في الثلاثينات... وهذا الاسم هو ستيفن لانغ. إذا، هكذا، إذ كشف الاسم وروجعت الملفات المتعلقة بالشخص، صار أخيرا في الإمكان وضع تصور كامل للحكاية. وهو قامت به الكثير من المصادر الغربية ومن ضمنها كتاب «التاريخ العالمي للاستخبارات» الذي اعتمدنا عليه أساسا في هذه الرواية التي تبدو، لنا بعد كل شيء، منطقية.

منذ البداية لابد من الإشارة إلى أن لانغ كان مثقفا واعيا، وكان ذلك أحد أسباب إرساله من قبل الأجهزة الستالينية لكي «يجند المواهب في فناء جامعة كامبردج التي كانت معروفة في ذلك الحين بأنها تضم بعض أذكى الطلاب في طول أوروبا وعرضها».

ولد دوتش، الذي عرف باسم ستيفن لانغ في سلوفاكيا، العام 1904 لأسرة من صغار التجار. وهو عند بداية شبابه تلقى دراسة لامعة جدا في فيينا إذ حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة. وهو إذ بدأ حياته النضالية عضوا في اتحاد الطلبة الاشتراكيين في فيينا سرعان ما نجده في العام 1924 ينضم إلى الحزب الشيوعي. وفي تلك الحقبة من حياته قيض لذلك الشاب اللامع والذكي أن يدخل في صداقة حميمة مع عالم التحليل النفسي ويليام رايش، الذي طالما كتب أثناء ذلك وبعده عن الثورة الجنسية، وهاجر لاحقا إلى الولايات المتحدة الأميركية، بل إن الأمر تجاوز الصداقة إذ أصبح لانغ، ولكن باسمه الأصلي: الدكتور أ. دويتش، المدير العام لمطبوعة «سكبول» التي كان ويليام رايش وأصدقاؤه يصدرونها في تخصص الثورة الجنسية والوعي الفرويدي الجنسي بشكل عام. وكان رايش، بالطبع القطب المحرك لهذا كله، إذ وجد نفسه في قلب تلك الحركة الباهرة من المثقفين المنتشرين بين فيينا وبراغ وبرلين يدعون إلى تلاقح ماركسي/ فرويدي قوامه التوعية الجنسية. ولنذكر هنا أن رايش وجد نفسه بعد فترة، في برلين، عضوا في الخلية الشيوعية نفسها التي تضم آرثر كوستلر، الشيوعي المبدع الذي لم يكن أحد ليتصور في تلك السنوات المبكرة أنه سيبادر بعد أعوام قليلة إلى تأليف الكتابين اللذين فضحا الشيوعية الستالينية وسنواتها السوداء، أكثر من أية كتب أخرى: «الصفر واللانهاية» و«اليوغي والمفوض». بل بالعكس تماما، في ذلك الحين كان كوستلر ينتمي إلى أجهزة الاستخبارات الستالينية التابعة للكومنترن في برلين.

ماركسية وتحليل نفسي

ويروي لنا كوستلر في مذكراته أنه كان في ذلك الحين عضوا في خلية شيوعية يقودها خبير من خبراء أجهزة الاستخبارات السوفياتية يدعى فريتز بوردي، أو ادغار، أو الدكتور شفارتز. بعد ذلك توجه كوستلر إلى باريس في العام 1936، وانضم لاحقا إلى وكالة الأنباء الهنغارية التي يديرها ساندور رادو. وأخيرا لم يعد يطيق ما يحدث فأعلن قطيعته التامة مع الشيوعية.

هذا ما كان من أمر كوستلر. أما ويليام رايش فقد واصل نشاطه والعمل ضمن إطار بيئته إذ عاد عند بداية الثلاثينات إلى فيينا، إذ كان من أفراد شلته شخص غريب الأطوار بعض الشيء يعمل هو الآخر في مجال التحليل النفسي، ويكره رايش كراهية فائقة. كان هذا الشخص يدعى مارك ياكوفليفتش (ماكس) ايتنغتون. وهو بولندي كان في العام 1919 عضوا في المجموعة المحيطة بسيغموند فرويد، وكان مقربا بشكل خاص من ماري بونابرت، سليلة الامبراطور التي اختارت التحليل النفسي ميدانا لنشاطاتها وكانت مجلية فيه. وماكس، الذي كان سليل عائلة ثرية، لم يكن شيوعيا تماما في ذلك الحين. بل إنه قدم مبلغا كبيرا من المال في العام 1922 لخلق كلية للتحليل النفسي، شديدة الاستغلال في برلين. وهو في الوقت نفسه أخذ يحاول نسف جهود زميله ويليام رايش في فيينا. ذلك أن ماكس ايتنغتون كان في ذلك الحين يرى العيادات الجنسية ومجلة «سكسبول» وحركتها والربط بين الماركسية والتحليل النفسي، أمورا ضالة مغرقة في السياسة ويجب التصدي لها.

وفي داخل الكومنترن، على أية حال، كان هناك نقد عنيف للهرطقات الفرويد-ماركسية. ذلك أن ويليام رايش حين نشر «معركة الشبيبة الجنسية» أراد من كتابه أن يكون فعل حرية. ثم حين نشر «الثورة الجنسية»، كتابه الأشهر، تعمد أن يهاجم فيه النظام الرأسمالي على قدم المساواة مع النظام الستاليني في الاتحاد السوفياتي. ثم في كتابه «الفاشية وسيكولوجيا الجماهير» هاجم الشيوعية نفسها كما هاجم الفاشية معتبرا أن الاثنتين تتغذيان من بعضهما بعضا. وكان هذا أكثر مما يمكن للحرس الستاليني أن يتحمل. وعلا الصراخ «رايش تروتسكي» وطرد رايش من الكومنترن. وفي الوقت نفسه دار سجال حاد داخل جمعيتي التحليل النفسي، الألمانية والدولية. وكان موضوع السجال طرد ويليام رايش. أما الداعي إلى الطرد فكان ماكس ايتنغتون. هنا أحس رايش أنه قد غدر به، وتوجه إلى الولايات المتحدة لكي يواصل دروسه وبحوثه مثل كل الذين كانوا معادين للنازية، غير أنه لم يفته أن يعلن في آخر سنينه أن عدوه الأكبر إنما كان «الفاشية الحمراء».

في فلسطين ضد رايش

انتصر ايتنغتون إذا. ثم سافر إلى فلسطين مهاجرا «اشتراكيا» يهوديا، إذ مات هناك خلال العقد الأربعيني بعدما أصبح الأب الروحي المؤسس لـ «المعهد الإسرائيلي للتحليل النفسي». لكنه حتى في فلسطين وعلى رغم انشغالاته الصهيونية لم يتوقف عن شن حملة عنيفة ضد ويليام رايش، مؤكدا أنه كان من الواجب حبسه في نادٍ للمجانين!

إزاء هذا كله عاش رايش بارانويا حادة في الولايات المتحدة، وصلت إلى ذروتها في سنوات الخمسين. ولكن من دون أن يفهم كنه الدور الحقيقي الذي لعبه ايتنغتون في ذلك كله. ومن دون أن يعرف أن ماكس ايتنغتون هذا كان في حقيقة أمره شقيق ناعوم (ليونيد) الكسندروفتش ايتنغنون، مساعد الجنرال سودوبلاتوف، أحد كبار مسئولي جهاز NKVD، الذي كان سلف الكي.جي.بي وليونيد هذا، هو الذي كان تحت اسم «الجنرال كوتوف» الشخص الذي جند كاريداد مركادير، الشيوعية الكاتالونية العنيدة وأم رامون مركادير، قاتل تروتسكي في المكسيك. وهكذا نرى كيف أن ليوتيد وجه قاتل تروتسكي عن طريق أمه، فيما كان على عاتق أخيه ماكس أن يتسلل إلى داخل حركة التحليل النفسي، ودفع أشخاص مثل ويليام رايش إلى جحيمهم وإلى حافة الهاوية.

لم ننس لانغ

ولكن أين هو ستيفن لانغ؟ مالنا نسيناه؟ وهل كان له دور حقيقي في ذلك كله؟ وهل تراه التقى، حقا، ايتنغتون في فلسطين، عند بداية سنوات الثلاثين، حين توجه إلى هنالك في مهمة سرية لحساب الأممية الشيوعية؟ يتساءل صاحبا كتاب «تاريخ الاستخبارات» فيأتيهما الجواب في المقالات التي ذكرنا نشرها في موسكو أول هذا الكلام.

في الواقع ان دويتش (لانغ) كان منذ العام 1928 يعمل لحساب الكومنترن بوصفه عميلا سريا. وبالنسبة إليه كان نصيبه الدائم هو التنقل مسافرا في مهمات سرية تقوده إلى رومانيا واليونان، إلى سورية وفلسطين. وفي فلسطين كان يتمركز في ذلك الحين عميل كبير من عملاء الكومنترن هو ليوبولد تريبر الذي سيعرف لاحقا من خلال حكاية «الأوركسترا الحمراء» الشهيرة.

مهما يكن الأمر فإن لانغ وزوجته جوزيفين، كانا مقيمين العام 1932 في موسكو. وهما إذ ضما هناك إلى أجهزة الـ NKVD، تلقيا تدريبات مكثفة في مجال فك الشفرة والبث عن طريق الراديو. ولقد عاد لانغ بعد ذلك إلى فيينا حيث يذكر المؤرخ كريستوفر آندرو في كتابه «الكي.جي.بي. في العالم»، أن علاقته مع ويليام رايش جعلت اسمه يرد في لوائح الأجهزة المكافحة للممارسات الإباحية (البورنوغرافية) في العاصمة النمسوية. ومن المؤكد هنا، حسبما يقول مؤرخو حياة ستيفن لانغ الجدد، أن العلاقة الحميمة لديه بين الثورة الأخلاقية الإباحية، وبين النزعة السرية في الانتماء الشيوعي، ما كان من شأنها إلا أن تبهر تلك المجموعة من المثقفين الماسونيين الليبراليين الموجودين في جامعة كامبردج في ذلك الحين. والذين كان يجمع بينهم أساسا حقد كبير ضد المؤسسة البريطانية الحاكمة، وتوجه عام نحو ما كان يسمى في ذلك الحين «شذوذا جنسيا».

باختصار، بعد عامين من ذلك وصل الزوجان دويتش (لانغ) إلى لندن، أو أنهما بالأحرى كانا يعيشان فيها منذ زمن. وفي ذلك الحين كان قد عاد إلى لندن كيم فيلبي، العميل السري الذي كان سبق لأجهزة التجسس السوفياتية أن جندته في فيينا قبل حين. وربما عن طريق لانغ نفسه. المهم أن لانغ صار في لندن العميل المكلف بالتعامل مع كيم فيلبي، ومع مجموعة كامبردج نفسها: انطوني بلانت، دونالد ماكلين، غي بارغس، جون كرينكروس وآخرون.

ولنذكر هنا أن طالبا سابقا ـ ينتمي إلى تلك الأزمان ـ في جامعة كامبردج نفسها أخبر الصحافة لاحقا ـ في التسعينات ـ أنه كان قد رفض الدخول في الشبكة حين عرض عليه ذلك. وأكد الرجل واسمه مايكل ستريت، أن «صياد المواهب» المدعو «أوتو» ظل يلحق به محاولا إقناعه حتى حين هاجر إلى الولايات المتحدة التي عاش فيها منذ الثلاثينات. والمهم في حديث ستريت هذا أنه أكد بما لا يدع مجالا لأي ريب أن ستيفن لانغ نفسه كان موجودا في الولايات المتحدة في ذلك الحين... وبالتحديد في مهمات لحساب الكومنترن وأجهزة الاستخبارات التابعة له، وفي علاقة مباشرة مع عدد من الشيوعيين الأميركيين.

في مصر وسورية

ومن المؤكد، بحسب وثائق أجهزة الاستخبارات السوفياتية أن ستيفن لانغ، الذي لاتزال أدواره في حاجة إلى أن تكشف أكثر وأكثر، توجه مع زوجته ومع طفله الوليد إلى موسكو في العام 1937. وهو منذ ذلك الحين اختفى تماما. فهل علينا أن نصدق الشائعات التي تقول إنه قد انتهى إلى معسكرات العمل والعقاب الستالينية (الغولاغ)؟

كان هذا هو السائد دائما. ولطالما تحدث المؤرخون عن تلك النهاية.

ولكن في العام 1991 جاء الجواب من موسكو قاطعا من وثائق الكي.جي.بي نفسها: منذ العام 1937 راح ستيفن لانغ يواصل مساره «المهني» بإبداع ما بعده إبداع وتحت أكثر من اسم سري. ويبدو أن منطقة الشرق الأوسط كانت واحدة من مجالات نشاطه الأساسية، إذ تقول بعض الوثائق، إن الكومنترن لطالما كلفه بمهمات في أوساط الشيوعيين السوريين والمصريين. وفي هذا الإطار تقول الوثائق إن ثمة نقصانا ملحوظا في التفاصيل المتعلقة بالمهمات التي كلف بها، خصوصا في إيران وفي الأرجنتين عند بداية سنوات الأربعين، إذ كان يعمل بشكل مباشر تحت سلطة بافيل فيتين المسئول الأعلى في الجهاز الخارجي التابع لـ NKVD. ومما لا شك فيه، في هذا الإطار أنه قد لعب دورا كبيرا، بل أساسيا في استعادة عميل الكومنترن فيتوريو كودوفيلا (مدينا) للسيطرة على الحزب الشيوعي الأرجنتيني في ذلك الحين.

وفي نهاية العام 1942 اختفى ستيفن لانغ، حقا هذه المرة، حدث هذا حين كان في مهمة على مركب في البحر الأسود إذ هوجم المركب من طائرات مطاردة ألمانية فغرق واختفى كل من عليه.

لكن صورته لم تختفِ. إذ حتى سنوات قليلة كانت صورته لاتزال تجاور صور فيتين وليونيد اينتغتون، وغيرهما من «أبطال» أجهزة الاستخبارات السوفياتية في مبناها الرئيسي، ساحة دزجنسكي في موسكو.

والآن، يتساءل المؤرخون، هل يمكن لهذه الحكاية المتعلقة بستيفن لانغ، ومن خلاله بمغامرة العلاقة مع حركة التحليل النفسي، أن نؤكد أخيرا حل اللغز القديم المتعلق بـ «من كان يتعامل في لندن مع كيم فيلبي ورفاقه؟».

مهما يكن من أمر، فإن في وسط هذه اللعبة كلها لغزا آخر لايزال في حاجة إلى حل. وهذا اللغز يتعلق بهوية ذلك الفرنسي، الذي كان يعمل مستشارا عسكريا للحزب الاشتراكي السري في النمسا في العام 1934 مثل كيم فيلبي تماما... والذي قد يمكن أن يكون هو، لا لانغ، من جند فيلبي تحت اسم سري هو «أوتو»... وتولى ـ أيضا لحساب الكومنترن ـ مراقبة شبكة لانغ ـ فيلبي، في لندن كما في زيورخ وباريس. وهو أمر سنعود إليه في حلقة مقبلة

العدد 71 - الجمعة 15 نوفمبر 2002م الموافق 10 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً