العدد 5314 - السبت 25 مارس 2017م الموافق 26 جمادى الآخرة 1438هـ

المشكلة

لوحة «الإسراء والمعراج» للفنان المصري العالمي أحمد مصطفى
لوحة «الإسراء والمعراج» للفنان المصري العالمي أحمد مصطفى

كلما مررت بذلك المكان اجتاحك إحساس باقتراف الظلم. فهل يا ترى أنت مذنب؟ وهل ستسعى إلى التكفير عن ذلك؟

في أحد الصباحات هاتفتك زوجتك وقالت إن الماء يفيض من الخزّان بأعلى البيت ويتدفق بضراوة إلى الأسفل ولابد من حل سريع كي لا تتصدع الأساسات علاوة على هدر كميات متزايدة من هذا السائل الثمين. وبقدر ما أزعجك الخبر بقدر ما أوهمت نفسك بأن الأمر بسيط لن يتعدى التقليل من مستوى اندفاع الماء في الأنبوب الصاعد إلى الخزّان، وسبق لك أن شهدت مشكلة مشابهة فأحضرت عامل الأنابيب الذي أصلح الخلل في غضون دقائق. وعندما جئت إلى البيت هالتك الكميات المنهمرة فأسرعت بإغلاق جميع الصمامات المتصلة بالخزّان.

في اليوم الثاني توقف تدفق الماء إلا أن الماء الساخن انقطع عن الصنابير. وصبرت الأسرة يوما ويومين فلم يتغير الحال فبادرت أنت بفتح الصمامات على المستوى الأوسط اعتقاداً منك بأن مستواها السابق تسبّب في امتلاء الخزّان وفيضانه، وفي المساء فرحتم بعودة الماء الساخن لكنكم لم تهنئوا طويلاً إذ فوجئتم في اليوم التالي بجريان الماء مرة أخرى. عندها اعترفت بجهلك ولجأت إلى عامل الأنابيب فلبى النداء وبعد الكشف على الخزّان أبلغك بأن مفتاح التحكم في مستوى الماء معطوب ويجب استبداله كما نصح بتركيب مفتاح آخر في الخزّان السفلي لتجنب انفجار الموتور في حالة خلو الخزّان من الماء. فقلت له وأنت تضع يدك على صدرك: وكم سعر المفتاح الواحد؟ فأجاب بأنه لن يتجاوز العشرة دنانير إضافة إلى بعض المستلزمات الزهيدة، واستطرد أنه يريد 12 ديناراً نظير قيامه بتركيب المفتاحين. ساعتها قلت لنفسك إن المصائب أحياناً تأتي دفعة واحدة ففي هذا اليوم خسرت 140 ديناراً قيمة إصلاح السيارة، وأنت الآن في شهر رمضان، شهر المصاريف الثقيلة والسحب على المكشوف. لكن ليس أمامك خيار ثان، فساومت الرجل وقبل بعشرة دنانير ثم ذهبت إلى محل قطع الغيار واشتريت المفتاحين وبقية التوصيلات وباشر الرجل عمله بسرعة وإتقان واضحين. وعقب ساعة كاملة من العمل المتواصل أخبرك أن الماء سيتدفق بصورة عادية بعد قليل فشكرته على ما قام به واوصلته إلى حيث أتى.

لكن المعضلة لم تنته وعاد الماء إلى التدفق في اليوم التالي، فسارعت إلى المحل وطلبت العامل نفسه فقيل لك أنه مشغول في تأدية عمل لأحد الزبائن، فتركت رقم هاتفك وأشرت عليهم بإبلاغه بالاتصال بك فور عودته. لكن العامل لم يتصل فتوجهت شخصياً مرة أخرى إلى هناك في اليوم الثالث وسالت عنه فقيل لك إنه غير موجود، فألححت عليهم بأن يتصل للضرورة، وقد ذهبت بك الظنون إلى أنه سوف لن يجيء لتيقنه من أنك لن تعطيه أجرة إضافية. وفي اليوم الرابع اتصل الرجل فذهبت وأحضرته للبيت فبادر بإلقاء نظرة على الخزّانين والتوصيلات وقام بإجراء تعديلات طفيفة وخلال أقل من عشر دقائق أتمّ مهمته، وفي هذه المرة لم يخالجك أدنى شك بأن المشكلة قد حُلّت إلى الأبد. وبعد أن طمأنك إلى أن كل شيء أصبح على ما يرام أوصلته إلى مكانه ولم يجرؤ على طلب أي مبلغ.

بيد أن المعاناة لم تتوقف واستمر الماء بالاندفاع بغزارة فهاتفت المحل وطلبت أن يأتي العامل على عجل، لكنه لم يكن موجوداً فاضطررت في اليوم اللاحق إلى إغلاق الصنبور. وفي هذه المرة بدأت تشكك في قدرات العامل وصممت على أن ترغمه على جلب بديل له، على حسابه، في حالة فشله في إصلاح الخلل. لكنه لم يتصل وكنت تغلي من الداخل وتدرك أن ذلك أمر متوقع لأنك أنت المحتاج إليه وليس العكس. وفي هذه الأثناء توقف هدر المياه لكن الأسرة ووجهت بمشكلة انقطاع الماء الساخن مرة ثانية.

انتظرت ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع طفح بك الكيل فأسرعت غاضباً إلى المحل وسألت عن «راجو» فلم تجده، فقلت للموظف في لهجة أشبه بالتهديد: أحضره الآن وفي الحال. فأخذ الموظف يتعلل ويحاول تهدئة الموقف إلا أنك كنت هائجاً فوعد بجلبه في أقرب فرصة. ويبدو أن فورة الغضب فعلت سحرها فما أن رجعت إلى البيت حتى اتصل «راجو» وقال إنه جاهز للمجيء، فذهبت إليه وأعربت عن استيائك لعدم نجاحه في حل المشكلة. وبعد الكشف أخبرك بأن الأنبوب الواصل مباشرة إلى الخزّان هو السبب في امتلائه وفيضانه وأن الحل يكمن في إغلاق فتحته، فتشاورت مع زوجتك وصدّقت العلاج الذي أشار به، فقام بسد الأنبوب ثم طلت منه اصلاح خلل الماء الساخن، فعاينه وأصلحه بعد طرد الهواء المتجمع في الأنابيب.

وما إن انتهى «راجو» من العمل بادر بالمطالبة بعشرة دنانير لكنك رفضت بشدة وجادلت بأن الخلل لم يصلح في المرة الأولى أو الثانية ورجوت أن يكون قد أصلح في هذه المرة وبالتالي فهو لا يستحق أية أتعاب إضافية. فحاول الرجل جاهدا إقناعك بأن هذا العمل يختلف عن العمل السابق بيد أنك لم تكترث، ثم لجأ إلى حيلة أخرى فأخذ يحكي لك عن زوجته الشابة المصابة بفشل كلوي وإلى حاجته إلى ما يوازي عشرين ألف دينار لإجراء العملية الجراحية في الشهر المقبل. وقال إن لديه طفلين عمر أحدهما خمس سنوات والآخر سنتان وأنهما يحتاجان إلى رعاية أمهما، فأدركت أنه يسعى لاستدرار عطفك، لكنك كنت مصراً على عدم الدفع. وحينما وصلتما إلى مقر عمله استعان بأحد زملائه كي يحصل على أجرته غير أنك تمسكت بالرفض.

لكن يا للعجب، ما أن بارحت المحل حتى اجتاحك شعور حاد بأنك ظلمت الرجل وينبغي أن تعطيه حقه. حاولت مقاومة هذا الشعور إلا أنه أخذ يتنامى ويتنامى وساورك إحساس بأنك عندما تطلب في المستقبل عاملاً من هذا المحل فإنهم لم يستجيبوا لك. أخبرت زوجتك بالأمر فوجدت إنها تؤيد تصرفك وتثني على ما قمت به.

لازمك الأرق طوال الليل وصرت تتقلب على الفراش ولم تغفو عينك إلا بعد جهد جهيد. هاجمتك أحلام مزعجة فأفقت مذعورا على عواء كلب يتأوه من بعيد وصوته يخفت شيئاً فشيئاً. راودك مشهد العامل وهو يناشدك مساعدته واستحضرت منظر زوجته المنهكة وطفليها المحيطين بها، فهل كان الرجل يكذب في سبيل استمالة قلبك؟ نازعتك الوساوس وقررت أن تذهب وتعطيه أجرته لكنك كنت في ذات الوقت تتراجع وتقنع نفسك بصواب عملك. استمر تفكيرك مشوشاً لعدة أيام ثم تلاشى في زحمة مشاغل الحياة.

لكنك كلما عبرت من هناك يخالجك احساس بالذنب وتتساءل في قرارة نفسك: هل ما أقدمت عليه كان صحيحاً.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 9:55 م

      في بعض الأحيان التنازل جيد وإن كان عدم التنازل ليس ظلماً
      ففي القصة كان من حق الرجل أن تصلح الشركة المشكلة آخر مرة مجاناً لأنها فشلت في ذلك سابقاً
      ولكن كان من كرم الأخلاق لو تنازل الرجل عن هذا المبلغ وأعطاه العامل وإن كان هو على حق.

اقرأ ايضاً