العدد 5325 - الأربعاء 05 أبريل 2017م الموافق 08 رجب 1438هـ

 بلاد البنط

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يقيناً، فإن أغلب الناس في هذا العالم لا يعرفون بعضهم. فمَن يعيشون في كيب تاون بجنوب إفريقيا لا يمكنهم التعرف عن قرب على أولئك الذين يعيشون في إيركوتسك بسيبيريا. ومَنْ يقطنون أونتاريو الجنوبية في كندا لا يعرفون بالضرورة سكان مدينة هامهون الكورية الشمالية.

ليس ذلك فحسب، بل إن أفراد الشعب الواحد قد لا يعرف بعضه بالضرورة إذا كان يعيش على أرض ممتدة وناسه بالملايين، ما خلا معرفة الآحاد ببعضهم. وقد زاد مثل هذا الأمر مع استعار التكنولوجيا الحديثة التي جعلت الناس لا تتواصل إلاّ عبر الآلة. في المحصلة، فالناس لا تعرف بعضها نتيجة التوزيع الجغرافي البعيد بين هذه الأرض وتلك، وإن تشابهوا في أشكال أجسادهم.

عندما نراجع سجلات الأمم المتحدة، نكتشف أن هذه المنظمة الدولية تحوي في عضويتها 194 دولة. بعض هذه الدول ربما لم نسمع عنه من قبل. فبالاو أو بربادوس أو توفالو أو ساموا أو سانت لوسيا أو كيريباس أو ليسوتو أو ميكرونيزيا هي دول لا نعرف عنها شيئاً. ولو قرأنا لفظة أندورا على سبيل المثال لاعتقدنا أنها اسم لامرأة أو رجل وليس بلداً له يوم وطني يصادف الـ 8 من سبتمبر/ أيلول.

لكن هناك كذلك دول لم تعترف بها الأمم المتحدة لكنها ومع حلفائها تحمل اسم دولة. وما دامت هي غير مسجلة فهي دولة إما أن تكون بدون اعتراف دولي، أو واحدة من الدول تعترف بها فقط، وهو ما يزيد بُعد معرفتنا عنها، وخصوصاً وأنها خارج مدار العلاقات الدولية. فعلى سبيل المثال لا يوجد في قوائم الأمم المتحدة دولة باسم: أبخازيا ولا جمهورية أرض الصومال ولا جنوب أوسيتيا.

قبل أيام نقلت وكالات الأنباء خبراً يقول بأن «قراصنة خطفوا سفينة هندية تجارية قبالة ساحل الصومال» وفي «محيط جزيرة سقطرى» تسمى الكوثر، وفقاً لـ «هيئة عمليات الملاحة التجارية التابعة للمملكة المتحدة» المعنية بمراقبة الملاحة التجارية في تلك المنطقة. اللافت في الخبر أن السفينة المذكورة كانت متوجهة إلى منطقة تسمّى «بلاد البنط» الواقعة في شمال الصومال.

وقد نقلت «رويترز» عن مسئول يُدعى موسى عثمان يوسف وهو مفوض منطقة إيل إحدى مدن بلاد البنط المشار إليها أن الشرطة هناك «مستعدة لمواجهة القراصنة». فـ «قوات الشرطة البحرية في بلاد بنط لها قاعدة هنا وسنقاتل القراصنة إذا جاؤوا» حسب تعبيره. وهو ما يُظهِر أن تلك البلاد لها سلطات خاصة عسكرية وشرطية وتمارس دوراً قانونياً مع دول أخرى بل وحتى مع العالم.

وللعلم فإن بلاد البنط تلعب دوراً مهماً في مكافحة حركة الشباب الصومالية، وكذلك مع عموم الجماعات المصنفة على أنها إرهابية. وقد حكمت بالإعدام على الكثير منهم. وهو ما يجعلها مكاناً للاستثمار السياسي طبقاً لمصالح بعض الدول، على رغم فقرها.

شخصياً، لم أكن أعرف عن بلاد البنط سوى الاسم فقط والذي كان يتردّد في التقارير الإخبارية القليلة. وربما يعود الغموض الذي يلف اسم ذلك (البلد) راجع إلى التسمية الأخرى التي تزاحمه وهي: بونت لاند. فالصوماليون وخلال أحاديثهم عن بلاد البنط يُسمّونها بونت لاند.

بل هم (أي الصوماليين) بالأساس لا يعتبرونها سوى ولاية فيدرالية تابعة لهم يجب أن تُحكَم من المركز، وبالتالي فإن حدود السلطة هناك ذاتية لا أكثر، وهو ما يجعل (كيانها) أو تحولها إلى دولة مستقلة تعترف بها الأمم المتحدة أمر مستحيل أو مُستبَعد على أقل تقدير ولو في الوقت الراهن. وبمراجعة قوائم ومضابط الأمم المتحدة فإنك لا تجد شيئاً يذكر بشأن بلاد البنط كدولة أو كيان.

الحقيقة أن كثيراً من المناطق في هذا العالم التي تطمح في التحوُّل إلى كيان (أو حتى تلك التي لم يعد لها ولا لشعبها رغبة قومية في ذلك أو التي تبلورت في كيانات أخرى مثل مملكة صقلية والكونفيدرالية الجرمانية وكونفيدرالية الراين) كانت بالأساس وعبر التاريخ دول قائمة ولها مكانة بين الدول، وبعضها كان يلعب أدواراً سياسية واقتصادية وثقافية، ومنها بلاد البنط على سبيل المثال.

فالباحثون وعندما كانوا يتناولون شأن التاريخ القديم كانوا يشيرون إلى هذه البلاد بشكل أساسي. فأهل اليمن القدماء الذين كانوا يجوبون الهند لشحن التوابل، ثم يشحنون عليها ما لديهم من بخور وعطور من شحر عُمان لتصديرها إلى مصر، كان الفراعنة يعتقدون أن هؤلاء اليمنيين هم من بلاد البنط، بسبب ما كان لتلك البلاد من سمعة، ونظراً لقرب المنطقتين «اليمن والبنط» من بعضهما.

فحسب تاريخ العرب القديم فإن بلاد البنط تقع «جنوب البحر الأحمر على ضفتي مضيق باب المندب». وهو ما يعني أنها ربما كانت ضمن نطاق النفوذ اليمني في تلك الفترة. ثم يشير إلى أن الملك ساحورع وهو ثاني ملوك الأسرة الخامسة الفرعونية (القرن الـ 26 ق. م) سيَّر حملة بلاد البنط، فـ «عادت السفن المصرية محملة بالبخور والأخشاب الثمينة والجواهر والصمغ» كما جاء.

اليوم، لا يُعلَم بالتحديد مدى الرغبة عند بلاد البنط في التحوّل إلى كيان مستقل، إلاّ أن لفظ دولة لم يعد هو الأقدر على لعب دور مهم في مصائر العالم، فقد تلعب الهوامش الجغرافية أدواراً تفوق دور الدول، كما هو بالضبط بالنسبة للأقليات التي بات بعضها يلعب دوراً أكبر من بعض الأكثريات.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5325 - الأربعاء 05 أبريل 2017م الموافق 08 رجب 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً