العدد 5365 - الإثنين 15 مايو 2017م الموافق 19 شعبان 1438هـ

قصة قصيرة... رسالة

ولجت إلى غرفتها، أوصدت الباب بالمزلاج، وقفت أمام مرآتها تتأمل جسدها المائل للسمنة، زفرت بنفاد صبر، تناولت هاتفها الذكي، لاحظت علامة على مجلد الرسائل توحي بورود رسالة ما، تجاهلتها كالعادة، وشرعت مباشرة تكتب في برنامج المفكرة:

معي هنا كل ما يلزمني للانتحار، لم يعد لي في هذه الحياة من حاجة، البشر قاسون، مُعلمي، حبي الأخير، تخلى عني فور أن أعلمته أنني أبادله حباً بحب، تنكر لي، بل وفضح رسائلي لبعض طالباته! لماذا إذن كان يستبقيني بالفصل بعد الحصة ويُثني على تفوقي، لماذا كان يخصني بالابتسام والاهتمام؟! يا له من لئيم.

حتى زملائي بالدرس، أكثرهم لا يكفون عن متابعتي بنظراتهم أينما حللت، فإذا ضبطت أحدهم بنظراته أسرع بإشاحة وجهه! يتقربون مني تباعاً، نظرة، كلمة، فكاهة، فإن ضحكت، آثرني باهتمامه عن بقية الطالبات، فماذا أفهم غير أنه معجب بي ويحبني! فلما أجعله محور أحلامي وهيامي، يهرب كأني مسخ رهيب. يا لهم من ماكرين!

أما كفاني أبطال المسلسلات الأجنبية الذين بالكاد أفقت من حبي لهم، فيأتي هؤلاء في حياتي الواقعية ليدموا قلباً لم يكد يندمل!

أكتب الآن في مفكرتي ما أريد، توطئة لنسخه مباشرة على صفحتي بالفيس بوك، لا أريد أن يفاجئوا بانتحاري، لن أعلم حينها كم لوعتهم عليّ، يتعين أن أرى شيئًا من ذلك بنفسي قبل أن أسلم الروح، لأشفي قدرًا من غليلي.

كيف سأنتحر؟ بأبسط الطرق، سأبتلع دواء الضغط الخاص بأبي، عشر حبات دفعة واحدة كي لا أعاني، وتجنباً لأي ألم محتمل سأتناول معها حبات المنوم الخاص بأمي، هكذا لن أشعر بشيء.

وخرجت إلى الشاشة الرئيسية، ولاحظت العلامة على مجلد الرسائل بالهاتف، فتجاهلتها، وفتحت صفحتها لتكتب منشوراً مؤثراً موجعاً، لامت فيه كل مَنْ تسبب في دفعها لقرار الانتحار، وفضحت بلا غضاضة كل دقائق أسرار صديقاتها، ومُعلميها. وختمت منشورها الطويل بعبارة درامية تفيد أن روحها ستظل تلاحق مَنْ دفع بها لهاوية الانتحار.

وبعد ان انتهت، ضغطت على (نشر) لرفعه على الفيس بوك، وحبست أنفاسها ترقباً، وفكَّرت (ترى كيف سيكون تلقيهم له؟ هل سيبكون عليّ؟ سيتصلون بي، أم ستشغلهم فضائحهم التي نشرتها تواً) وتجهمت وقد ساورها الندم من سوء العاقبة، (صديقتي المقربة، أتمنى ألا يقتلها والدها. ومُعلمي العزيز، آمل ألا تطلب زوجته الطلاق... هي رقيقة على أية حال، وكانت تعاملني بلطف حقيقي). وقبل ان يستبد بها الندم، سارعت إلى علبتي الدواء، وضعتهما جوارها، وصبت كوباً من الماء. فكرت أن تبدأ بتجرعهما، بيد أنها توقفت (ليس الآن، لا يجدر بحياتي أن تكون زهيدة الثمن، فلنرَ إن كانوا يقدرونها حقاً أم لا، فإن كانت نقرات الاعجاب أربعة عشر عدد سنوات عمري، وكانت التعليقات مثلهم، اتخذت قرار الانتحار راضية، وإن تجاهلوا منشوراتي كالعادة، وبخلوا حتى بالإعجاب، فسألغي الانتحار، وسأبقى حية لأتشفى منهم!

وطفقت تنتظر ردود الأفعال، وطال الوقت، وفكرت بهلع: (لم يتفاعل أحد، فقط علموا بأدق خصائصي وفضائحهم، وبلا مقابل، إلا أن أموت. ولكني عزمت إلا بعد تفاعلهم، فماذا أفعل؟!) وحدقت في الأقراص وقد امتقع وجهها، شعرت بتشوش عينيها يزداد، فتناولت نظارتها الطبية التي تكره ارتداءها، وأنفقت الوقت في تصفح هاتفها، ألفت التنبيه المزعج، فقررت أخيراً فتح الرسالة التي وردتها قبل يوم، ومضت تقرأ، وما لبثت أن جحظت عيناها، كادت تجن، بينما العبارة تدوي في رأسها:

"عذراً، قد انتهى اشتراككم في باقة الانترنت لعدم تجديدكم الاشتراك".





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً