العدد 5369 - الجمعة 19 مايو 2017م الموافق 23 شعبان 1438هـ

العالم في حالة سيولة

عبدالنبي العكري comments [at] alwasatnews.com

ناشط حقوقي

يشهد العالم حالة من السيولة مع ما يرافقها من قلق وعدم يقين، كانت البداية في أميركا أقوى دولة في العالم، عندما فاجأ رجل الأعمال الشعبوي دونالد ترامب العالم وخالف توقعات الخبراء بالفوز بالرئاسة ضد منافسته السياسية المخضرمة هيلاري كلينتون على رغم عدم تأييد كبار قادة الحزب الجمهوري. وهكذا وصل إلى البيت الأبيض رجل من خارج مؤسسة الحكم الأميركية، متحدياً البيروقراطية في واشنطن ومتوعداً إياها.

لم يكن لترامب برنامج؛ بل مجموعة من الأطروحات التي تناقض بديهيات السياسة الأميركية داخلياً وخارجياً، والتي استقرت لعقود أو على الأقل بعد الحرب العالمية الثانية، حيث الولايات المتحدة قائدة العالم من دون منازع بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وعلى رغم بروز بعض المنافسين الاقتصاديين مثل الصين أو عسكريين مثل روسيا، إلا أنه لا أحد يضاهي الولايات المتحدة. وقد أحدث فوز ترامب هزة على امتداد الكرة الأرضية، وتسارع قادة العالم من الدول الكبرى مثل الصين (تشي بنغ) والمملكة المتحدة (تيريزا ماي) وكندا (جستون ترودو) وألمانيا (ميركل) والأمين العام لحلف الأطلسي ثم تبعتهم الدول القلقة على مستقبل علاقاتها مثل (إسرائيل، ومصر، والأردن، وفلسطين ودول مجلس التعاون وأخيراً وزير الخارجية الروسي لافروف).

أما زعماء الدول الثماني الكبرى فسيلتقون ترامب في برلين، وسيكون هناك لقاء ثنائي مع بوتين، وسيلتقي ترامب كذلك زعماء حلف الأطلسي والاتحاد والأوروبي في القمة القادمة في بروكسل، كما سيلتقي الزعماء الخليجيين والعرب والمسلمين في الرياض قريباً، وبالنسبة للولايات المتحدة ذاتها فإن مفاجآت ترامب لا تنتهي، بحيث إنه يستهدف تغيير بنية المؤسسة الدولة الاتحادية والحياة السياسية، ونمط الحياة الأميركي التعددي الليبرالي والحريات العامة.

تستطيع الاستطراد كثيراً عن مغزى وأبعاد وصول ترامب للبيت الأبيض؛ لكن المهم هو أن فوزه يمثل انقلاباً في الحياة السياسية الأميركية، وانقلاباً في المؤسسة الحاكمة، بوصول رجل أعمال منفلت لسدة الرئاسة، يصنع سياساته الداخلية والخارجية بمنطق رجل الأعمال والمساومة والربح والخسارة، المفارقة أنه في جوار الولايات المتحدة والتي يحكمها رئيس يميني شعبوي منفلت، هناك كندا والتي وصل إلى الحكم فيها رئيس وزراء شاب ليبرالي، ذو نزعة إنسانية مفرطة وهو جستين ترودوا، ليحدث تحولاً كبيراً في سياسة كندا الداخلية والخارجية بعد عقود من حكم المحافظين، وليشكل النقيض لكل ما يمثله ترامب وما تمثله أميركا في عهده، وقال قوله المشهود: «من ترفضه أميركا من اللاجئين نحن نستقبله» لكن ظاهرة الشعبوية واليمنية والتمرد على المؤسسة ليس حصراً على أميركا، بل سبقتها أوروبا.

ويمثل رئيس الوزراء الإيطالي اليمني الشعبوي برلسكوني أبرز تعبيراتها لكن حقبة برلسكوني، انتهت بإدانته والحكم عليه بخدمة المجتمع بدلاً من السجن؛ لكن فوز ترامب شكل مخاوف حقيقية لأوروبا في ظل أزمات تهدد استقرارها ورفاهيتها وحرياتها وأهمها الإرهاب الذي ضرب أكثر من عاصمة أوروبية، وملايين اللاجئين الذين تدفقوا براً وبحراً على أوروبا هروباً من حروب دموية ونزاعات فتاكة ومجاعات، مع غرق عشرات الآلاف منهم في مياه البحر الأبيض المتوسط، وتجمد المئات في الطرقات أو موتهم في الشاحنات مما ترتب عليه كارثة إنسانية، ورهاب لدى شعوب أوروبا على مستقبل ونمط حياتها، وهنا أيضاً انتعشت التيارات اليمنية والقومية الشوفينية والشعبوية، حيث حققت أحزاب اليمين تقدماً في هولندا والمجر وألمانيا وفرنسا، كما كشفت الانتخابات عن سخط شديد لدى المواطنين العاديين، تجاه السياسيين والأحزاب التقليدية، وأضحوا مستعدين لتصديق اليمين المتطرف وحلوله السحرية اللازمة، بالتخلي عن العولمة والانفتاح وإقامة الأسوار والعودة للدولة القومية المغلقة.

النجاح الأكبر لذلك تحقق في فرنسا بصعود ماريان لوبان وحزب الجبهة الوطنية. لكن الوجه الآخر للتمرد على المؤسسة الحاكمة والتي ابتعدت تدريجياً عن هموم المواطن العادي، وتعيد إنتاج ذاتها بغض النظر عن الحزب الحاكم من اليسار أو اليمين أو الوسط هو الشاب إيمانويل ماكرون (39 عاماً). هذا الشخص العصامي والإداري البنكي القدير، والذي أنقذ بنوكاً وشركات من إفلاس محقق، واختاره الرئيس الفرنسي هولاند وزيراً للاقتصاد، والذي بدوره أحدث تغييراً كبيراً في قانون العمل نحو المرونة في التشغيل والعمل، لكنه سرعان ما ترك الوزارة ليشكل «حركة إلى الأمام» في سبتمبر/ أيلول 2016، في تحدٍ واختراق للحياة الحزبية والسياسية الفرنسية، وخاض ماكرون سباق الرئاسة، وهو من خارج المؤسسة السياسية الفرنسية، وغير معروف، ليحدث المفاجأة وهو أن يكون الأول في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة في تاريخ 24 أبريل/ نيسان العام 2017 بـ 26 في المئة من الأصوات، وبذا دخل في منافسة مع السيدة ماريان لوبان زعيمة الجبهة الوطنية اليمنية والتي حازت 23 في المئة من الأصوات، وعلى رغم عدم وثوق الأحزاب والطبقة السياسية في ماكرون، إلا أنهم أمام خطر لوبان الداهم، اصطفت جميع القوى من اليمين والوسط واليسار والأحزاب التقليدية في دعم ماكرون المتمرد عليهم. وهكذا فاز فوزاً ساحقاً في الجولة الثانية بنسبة 66 في المئة مقابل 34 في المئة حصلت عليها لوبان، وهي أعلى نسبة فاز بها رئيس فرنسي باستثناء بومبيدو بـ 67 في المئة.

كما أنه أصغر رئيس في تاريخ فرنسا وعمره 39 عاماً. النموذج اليمين الشعبوي الآخر هو ما مثله زعيم حزب الاستقلال البريطاني فاراج والذي قاد حملة تضليل شعبوية مدغدغاً عواطف العظمة عند البريطانيين في دعوته لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، جاراً معه معظم أنصار الأحزاب الثلاثة المحافظين والعمال والأحرار، في حين عارضه الحزب الوطني الاسكتلندي ونجح في حملته ليفوز دعاة الخروج من الاتحاد الأوروبي بنسبة 53 في المئة، وليدخل المملكة المتحدة في متاهة، وقد يجر عليها استقلال اسكتلندا.

هذه بعض مظاهر اعتوار العمل السياسي واختلالات في البنية السياسية وآليات العمل السياسي، وقصور في الأحزاب السياسية التاريخية في الغرب، من المفيد هنا التنويه أيضاً لما جرى في كوريا الجنوبية من الإطاحة بالرئيسة المنتحبة بارك جوين هي عن الحزب الليبرالي الحاكم التقليدي لكوريا بعد فضيحة محاباة، ما أحدث أيضاً زلزالاً في البنية السياسية الكورية، وترتب عليها لأول مرة وصول مرشح الحزب الديمقراطي مون جاي أن الذي يدعو علانية لمصالحة بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية وسط توتر شديد وصل إلى حافة الحرب، متحدياً الحليف الأميركي والطبقة السياسية التقليدية النافذة، وكذلك محاربة الفساد بما في ذلك فساد كبريات الشركات مثل سامسونغ وهيونداي وغيرهما.

من خلال هذه النماذج يتضح لنا أنه في ظل ثورة المعلومات والتحولات في بنية المجتمعات، والاختلافات التي أحدثتها العولمة، والانفصام في كثير من الأحيان بين الطبقة السياسية وشعوبها وخصوصاً الشباب، فإن هناك ظاهرة التمرد على تلك المنظومة وبنيتها ونمط سياساتها. لقد حاولت الشعوب العربية التمرد على ذلك من خلال ما عرف بالربيع العربي؛ لكنه جرى إجهاض هذا الحراك من قبل الأنظمة وحلفائها. كما أن هناك حراكاً في أميركا اللاتينية بعد نكسات اليسار الديمقراطي في البرازيل والأرجنتين ضد سياسات الإجهاز على مكتسبات الشعب وصعود اليمين، وكذلك ثورة على اليسار الاستبدادي في فنزويلا، ويعطي فوز اليسار الديمقراطي في تشيلي والإكوادور مؤشرات إيجابية لذلك.

نحن إذاً أمام عالم شديد السيولة، سيعاد تشكيله في ضوء التغييرات في البلدان الكبرى؛ ولكن بأي اتجاه؟ لا أعرف.

إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"

العدد 5369 - الجمعة 19 مايو 2017م الموافق 23 شعبان 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً