العدد 5371 - الأحد 21 مايو 2017م الموافق 25 شعبان 1438هـ

بيت العنكبوت

لوحة للفنان بريفيدنتسيف غينادي
لوحة للفنان بريفيدنتسيف غينادي

«الكون أخضر هذا ما قاله حكيم الدود».

نقرت الدودة بيضتها الصغيرة البيضاء المتوضّعة على قفا الورقة الخضراء التي تفتحت من برعمها منذ أيام ثم خطتْ خارجها بأرجلها، خمس في كل صف وبحركة متناغمة تقدّمت مسافة تساوي ضعفي طولها حتى وصلت لحافة الورقة وأخذت تقضمها كوجبة طعام حلمتْ بها منذ وضعتها أمّها هناك، أكلتْ بنهمٍ شديد، أتتْ على معظم الورقة ثم حركتْ أرجلها وانتقلتْ لورقة أخرى في نفس البرعم وهي تفرز مخلفات ما تأكله وراءها.

العنكبوت التي حملتها الريحُ وحطّت على الشجرة عبر خيط حريرها الذي يعتبر كجناح لها قد انتهتْ من نسج شبكتها، انتظرت بهدوء في إحدى زواياها طريدة تحملها الريح من ذوات الأجنحة، ولتسلي نفسها راقبت تلك الدودة النهمة وزادتها شراهة الدودة عجباً، فغزلت خيطاً وانحدرت باتجاهها.

- أنتِ أيتها الدودة.

نادتها العنكبوت، تطلعت ذات الأرجل الكثيرة إلى الأعلى نحو الصوت، لكن لم تعر العنكبوت اهتماماً، من جديد نادتها العنكبوت، فردت وهي تمضغ خلية من الورق الأخضر

- اعذريني أيتها العنكبوت، فليس لديّ وقت لأحادثكِ، فأنا في عجلة من أمري، يجب أن آكل سريعاً لأتحوّل إلى فراشة.

اهتزّت شبكة العنكبوت لكثرة ما ضحكتْ وتكلّمت من خلال قهقهتها: فراشة!؟ لو أنّك فراشة لكنتِ على لائحة طعامي ومن على لائحة طعامي لا أتحدث إليه، بل ألسعه بإبرتي هذه وأتناوله.

ردتْ الدودة بغمغمة، ففمها مملوء بالأخضر: لو كنتُ على قائمة طعامكِ لهربتُ، هذا ما كانت ستخبرني به غريزتي وما أخبرتكِ به غريزتكِ أيضاً.

توقفتْ العنكبوت عن الضحك وانسحبتْ إلى شبكتها بسرعة، لم تكترث الدودة لها، حتى أنّها نظرت إلى الأعلى ورأتْ شيئاً يتخبّط ذا ألوان حمراء وصفراء في شبكة العنكبوت، تمتمت: ليس من لون غير الأخضر.

مضى وقتٌ كافٍ لتنهي الدودة أكل البرعم، فانتقلتْ لغصن آخر، حتى وازت شبكة العنكبوت، رمقتْ الدودة العنكبوت التي انتهتْ من نسج شكل أسطواني على أحد خيوط شبكتها وأكملت قضم الورق الأخضر.

لمحتها العنكبوت ونادتها: لو رأيتِ الفراشة التي اصطدتها، لقد ملأتْ بطني بعصير متعدّد الألوان، حتى أن حظي اليوم كان جيداً فاصطدتُ أخرى وخبأتها ليوم الحاجة، إن استمررت على إصرارك بأن تكوني فراشة سألتهمكِ.

وتقدّمتْ نحوها، التفتتْ الدودة إليها وتابعتْ قضم الورق الأخضر.

صرختْ بها العنكبوت: أنتِ عديمة الإحساس، كل ما تعرفينه هو أن تأكلي وتأكلي، لابد أن هذا الأخضر الذي تأكلينه قد سبب لك العمى والبلادة، فمن رابع المستحيلات أن تتحولي إلى فراشة، خذي قليلاً من الاستراحة وانظري حولك لتعرفي مقدار غبائك.

ردّت الدودة بحنق: أنت الغبية.

فتابعت العنكبوت غير عاتبة: انظري لتلك الزهرة، هناك فراشة، قولي لي بماذا تشبهينها؟

رفعت الدودة رأسها وقالتْ: حتماً لا أشبهها ولكني سأصير فراشة.

ردتْ العنكبوت: أنا العنكبوت المعروف عني صبري وصيامي وتأملي لمَا حولي، وقد نقلتني الريح من مكان لآخر وأعرف من هم على لائحة طعامي، ولم أر يوماً مخلوقاً تافها كنوعك من الدود يتمنى أن يكون على لائحة أعظم الصيادين في العالم، وكم اتمنى أن يكون الدود من أمثالك على لائحة طعامي لأذيقك من سمي وأتلذذ بمصّ عصارتك الخضراء التافهة.

تراجعتْ العنكبوت لإحدى زوايا شبكتها، فيما تابعتْ الدودة قضم الورق الأخضر.

وتتابعتْ الأيام والعنكبوت تصطاد الفراش وتتساقط هياكلها الجوفاء قرب الدودة التي تضخمتْ إلى أن أتى اليوم الذي اختفت فيه. لم تنتبه العنكبوت لغيابها ولا الدودة تذكرت العنكبوت، فآخر ما تذكره كان قضمة خضراء.

على غصن أسفل شبكة العنكبوت، بدأت شرنقة بالتفتّح لتخرج منها فراشة زاهية الألوان، تسلقت الفراشة جانب الغصن وفي غريزتها حكمة كبير الفراش الذي يقول: «الكون عالم من الألوان».

حركتْ أجنحتها، تطلّعتْ في كلّ الجوانب، سحرتها ألوان الأزهار، وتمنّتْ أن تطير عن هذه الشجرة ذات اللون الوحيد المثير للغثيان، ولكن لابد من الانتظار حتى تجفّف الريح والشمس أجنحتها.

حان الوقت، ركبتْ نسمة هواء وارتفعتْ، اهتزت شبكة العنكبوت، فخرجت مسرعة من إحدى زواياها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

*قاص وكاتب سوري





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً