العدد 5376 - الجمعة 26 مايو 2017م الموافق 29 شعبان 1438هـ

علي

مهدي عبدالله
مهدي عبدالله

مهدي عبدالله - قاص ومترجم بحريني 

تحديث: 28 مايو 2017

بعض الأشخاص محفورون في الجبين، على رغم صروف الزمن وتبدّل الأيام. تسترجعهم في فترات التأمّل وفي أوقات الفرح وفي حالات الضيق ولحظات الحزن. وحينما نعى النّاعي صديق الطفولة (عليّاً)، ترقرقت الدموع في عيني وصمّمت على أداء واجب العزاء.

عادت بي الذاكرة إلى الوراء، إلى مرابع الصّبا وشقاوة البراءة وتجسّد هذا الفتى الذي كان في مثل سنّي أو يكبرني بسنة واحدة والذي كان ممتلئاً حيوية وحباً للحياة. يستمتع بأوقاته كيفما يشاء، يدخّن السجائر كالكبار، يتنطّط فوق درّاجته ويطوّح بها في الهواء. يتفاخر دائماً بقوته وعضلاته، يتقلّد المذياع الصغير (الترانزستور) على ذراعه أينما ذهب. كنت أُعجب بقفشاته وأُشاطره بعض هواياته لكنّي لم أكن في مثل جرأته.

نذهب سوياً مع بقية الأطفال للسباحة في عين مليح القريبة المليئة بالأتربة والأوساخ، جنباً إلى جنب مع الحمير التي يتم تحميمها والكثير من الغيلم المتناسل هناك، دون أن نشعر بفداحة ما نقدم عليه، ثم نعود مستبشرين ونحن نخوض بأقدامنا العارية في أشواك المزارع والأراضي الترابية الدافئة. نترافق في رحلات وكشتات النادي ونقضي وقتاً بهيجاً بين ربوع الطبيعة الغنّاء.

كان علي لا يحب الدراسة ومن الطلاب المستهترين. وفي أحد الامتحانات، في الصف الخامس، كان يجلس أمامي وطلب منّي أن أساعده في حل الأسئلة. وبحكم طبيعتي الخجولة وربما الجبانة، وخشيتي أن يكتشف المدرس أمرنا، لم أجد الشجاعة على تغشيشه ، فرسب في الامتحان، وبعدها بفترة قصيرة ترك المدرسة إلى الأبد. في كل مرة أسترجع فيها هذا الموقف أشعر بطريق غير مباشر بأنني ساهمت في هجره للدراسة وتشكيل مستقبله.

كان علي يأتي كل مساء إلى بيتنا حيث يتجمّع الأولاد والبنات حول التلفاز الوحيد في (الفريق) ويسهرون مع الأفلام العربية والمسلسلات الأميركية، يستمتعون بها ويتلذذون بأكل «السّمبل» وحب الرّقي وغيرها من المأكولات الخفيفة. كان معجباً بفتى الشاشة الأول فريد شوقي الذي يشكّل رمز الفتوّة والعنف آنذاك، وكان مغرماً بالفنان ناظم الغزالي وأغنيته الشهيرة (يا أم العيون السود) وحزن حزناً شديداً لرحيله المبكّر.

ذات يوم فاتحني علي في أمر مفاجئ. قال إنه يحب فاطمة التي تتردد على بيتنا مع بقية الأطفال في المساء، وأنه يعتزم التّقدم لطلب يدها. وبقدر ما كان الخبر مباغتاً بقدر ما سُررت له وتمنيت لصديقي بالتوفيق. كانت فاطمة من النوع الذي يُحب، فتاة هادئة معتدلة القوام، وجهها قمري وبشرتها بيضاء، تزداد جمالاً حينما تتلفّع بمشمرها الأخضر المزيّن بالورود.

بعد عدة أشهر علمت أن فاطمة قد تقدّم لخطبتها شاب آخر وتمت الموافقة عليه، فحزنت لهذا الخبر وتمنيت ألَّا يؤثر هذا كثيراً على صاحبي.

وتمضي الأيام ويغادر علي القرية وتنقطع أخباره. أحياناً أسمع أنه يقطن في المنامة ويزاول عملاً بسيطاً، وتارة أسمع أنه يعمل في المنطقة الشرقية بالسعودية. وفي آخر السنوات قيل لي أنه يسكن مع عائلته في قرية نائيّة. وبسبب مشاغل الحياة لم أتمكّن من لقائه طوال هذه السنين إلا لماماً، ولفترات قصيرة فقط.

حينما دخلت المأتم لتقديم التعازي، سلّمت على أقاربه وسألت عن أولاده. هذا ابنه الأكبر، في العشرينات من عمره، يشبهه كثيراً لكنه أضخم جثّة وأقل طولاً. وهذا ولده الثاني، أسمر اللون وأكثر نحافة. وهذا ولده الثالث الذي ليس فيه أي شبه.

قلت لهم: والدكم كان صديقاً حميماً لي، وتعلمت أشياء كثيرة منه.

غادرت المأتم وأنا أتأسّى على الأصدقاء الذين يتساقطون يوماً بعد يوم، لكنها سنّة الحياة، فكل من عليها فان ويبقى وجه ربك.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 7:58 ص

      تسلم استاذنا العزيز على سردك الجميل للذكريات الجميلة وكذلك الحزينة ..
      عين مليح من عيون مدينة جدحفص الجميلة التي لا يبارح ذكراها ذاكرتنا حيث كنا في صيف الماضي نتحين الفرص وننتظر الوقت المناسب للذهاب لها والإستحمام بماءها البارد صيفا، مليح كانت بوسط طبيعة خلابة محاطة بالبساتين الخضراء الجميله وسابها العريض يصل لمنطقة السبيخة أو ما تسمى بالفسلة والتي هي اليوم بموقع نادي الشباب، رحم الله صديكم عليا واطال في عمركم في خير وعافيه استاذنا العزيز..

    • زائر 1 | 8:07 ص

      الله يرحمه رحمة الابرار.

اقرأ ايضاً