العدد 101 - الأحد 15 ديسمبر 2002م الموافق 10 شوال 1423هـ

ضرورات التحاور العربي / الإيراني التركي

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

من الأهمية بمكان أن ندرك من نحن وأين موقعنا على الخريطة العالمية؟ ولكن الأكثر أهمية ان ندرك أين موقعنا على الخريطة الإقليمية؟ وهنا يطرح على بساط البحث وضع أربع دول على الأقل من الضروري أن يكون هناك حوار عربي معها، وهذه الدول تؤثر تأثيرا كبيرا على الأمن القومي العربي وتتأثر به وهي دول الجوار المباشر مع العالم العربي، وفي مقدمتها إيران وتركيا.

يمكن أن نبادر إلى القول إن كل من هذه الدول لها سياساتها الخاصة بها وإن التحاور مع أي منها ينبغي أن يكون له سمات خاصة لاختلاف ظروف كل دولة من هذه الدول من حيث التاريخ والجغرافيا ومدى علاقاتها مع العالم العربي اتصالا أو انفصالا، حربا أم سلاما، لكننا نضع إيران وتركيا في فصل مشترك لعدة اعتبارات منها تداخل تاريخ هاتين الدولتين مع بعضهما بعضا ومع المنطقة العربية، ومنها انتماء الدولتين تاريخيا إلى الحضارة العربية الإسلامية والثقافة الإسلامية، ومنها أن علاقات العالم العربي بكل من الدولتين اتسم بالشد والجذب عبر مراحل عدة من التاريخ، لوجود حضارة عريقة في المنطقتين الجغرافيتين اللتين قامت عليهما كل من إيران وتركيا، ومنها أن هاتين الدولتين أقامتا علاقات خاصة مع إسرائيل لفترات طويلة في التاريخ الحديث وأثرتا على الأمن القومي العربي، ومنها أن بين كل من هاتين الدولتين وبين المنطقة العربية نقاط احتكاك وتقاطع، ولهما مطامع في هذه المنطقة، وخصوصا لثرواتها النفطية وموقعها الاستراتيجي، وهكذا ومن جماع هذه العوامل يفرض الحوار العربي مع كل من إيران وتركيا نفسه، على رغم اختلاف ظروف وتوجهات كل من الدولتين. ونخصص هذا المقال للتحاور العربي مع إيران لأهمية ذلك لمنطقة الخليج خصوصا، وللأمن العربي عموما.

تقع إيران في شرق العالم العربي وتكاد تتماس مع كل الحدود الشرقية لهذا العالم من عمان جنوبا وحتى العراق شمالا مرورا بدول مجلس التعاون الخليجي الست كلها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فان لإيران تطلعاتها الاستراتيجية في مضيق هرمز من جنوب الخليج إلى جزيرة الفاو في الشمال، ناهيك عن جزر الإمارات العربية المتحدة الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبي موسى) فضلا عن خلافات تاريخية تجاه البحرين وغيرها، هذا من ناحية ثانية. تذرعت إيران في تعاملها مع العالم العربي بالقوة حينا كما في تعاملها مع مسألة جزر الإمارات العربية الثلاث وفي مشكلاتها مع العراق، والتزمت التعامل السياسي والدبلوماسي والضغط الاقتصادي حينا آخر، وعمدت إلى تصدير مفهوم الثورة بعد العام 1979 حينا آخر. يساعد إيران في تعاملها المتنوع مع العالم العربي اختلاف وتنوع الدول، فهي سبع دول، تمثل ثلث العالم العربي، وبها مصادر متنوعة وخصوصا النفط، وفي معظمها هي دول صغيرة الحجم، قليلة السكان وبها أقليات إيرانية عرقية ودينية. وفي التقدير إن هذا كله خلق فرصا لإيران، وأدى إلى تنوع أساليب تعاملها مع العالم العربي.

ولكن على الجانب الآخر فان كلا من إيران والعالم العربي يرتبطان بل ويتقاربان من حيث العمق الحضاري الإيراني والعربي، وخصوصا في شقه الحضاري الممتد ما بين الحضارة الفرعونية، في مصر للحضارة البابلية والآشورية في كل من سورية والعراق، فضلا عن حضارات أقل شهرة على المستوى العالمي في منطقة الخليج مثل حضارة دلمون، بالإضافة إلى تفاعل التاريخ الإيراني العراقي وتداخله في ظل الحضارة الإسلامية. وهذا التفاعل الجديد هو الذي خلق ما بين إيران والعالم العربي علاقة حب وود وتقارب من ناحية، وعلاقة تنافس وتسابق من ناحية أخرى، وعلاقة ذات حساسية من ناحية ثالثة، فمن حيث علاقة التقارب والمودة نجد تشابه السياستين العربية والإيرانية في مساندة بعضهما بعضا في قضايا حركة التحرير العربية وخصوصا قضية فلسطين وفي مقدمتها قضية القدس الشريف وقضية الأمن في الشرق الأوسط. ومن هنا فإن إيران تصوت دائما مع الدول العربية في المحافل الدولية بل إن لها مبادراتها مثل مبادرة إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط، وهي المبادرة التي طرحتها إيران منذ العام 1974 وانضمت لها على الفور مصر متبنّية وراعية، ثم أصبحت أحد مرتكزات السياسة المصرية وطورتها بعد ذلك إلى منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل كلها. وتنتمي كل من إيران والدول العربية إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، وهو التجمع الذي قام أساسا للدفاع عن القدس بعدما تعرض المسجد الأقصى للاعتداء عليه في العام 1969، وسعت تلك المنظمة بعد ذلك لتصبح جهازا أو تجمعا إسلاميا يسعى إلى إقامة تعاون سياسي واقتصادي وثقافي.

وفي الوقت نفسه يمكن أن نقول إن إيران لها مبادراتها الخاصة التي قدمتها للعالم وحظيت بتأييد كبير، ومن هذه المبادرات الدعوة التي أطلقها الرئيس الإيراني محمد خاتمي في مؤتمر القمة الثامن لمنظمة المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في طهران في ديسمبر/كانون الأول 1997 بأن تكون تلك الدورة هي دورة «الكرامة والحوار والمشاركة» وبعد ذلك انطلقت مبادرة إيرانية في الأمم المتحدة للدعوة لحوار الحضارات، وأيدتها الأمم المتحدة واعتبرت أن العام 2001 هو العام الدولي لحوار الحضارات. ويمكن القول إنه كان هناك تخوف كبير من رئاسة إيران منظمة المؤتمر الإسلامي، سواء من جانب بعض الدول العربية أو من جانب القوى الكبرى في السياسة الدولية، بأن تعيد أو تكرر إيران مسلك كوبا عندما ترأست حركة عدم الانحياز فأبدت التشدد والتطرف في السياسة الدولية، ودفعت بمبادرة ذات توجهات ثورية ومضادة للغرب، ولكن ما حدث هو ان إيران في فترة رئاستها منظمة المؤتمر الإسلامي أبدت عقلانية واعتدالا، وربما التطورات الداخلية في إيران والظروف الدولية ساعدتها على ذلك التوجه، ولذلك جاء إعلان طهران مركزا على الدعوة إلى إحياء الحضارة والهوية الإسلامية والمشاركة الفعالة من دول المنظمة في المجتمع الدولي - وليس المقاطعة أو معاداة ذلك المجتمع أو الدعوة لتثويره وتغييره، كما رددت الثورة الإيرانية في معظم فتراتها - وحرصت الدبلوماسية الإيرانية على إبراز ان إيران دولة مسئولة وتدعو إلى الحوار العالمي، واعتبر هذا المنهج أحد ردود الفعل البناءة ضد دعوة صامويل هانتنجتون لصراع الحضارات.

وهكذا خفت حدة الدعوة الثورية والطروحات الثورية الإيرانية، وان لم تتغير أهداف إيران الحقيقية في حماية أمنها والتعبير عن مصالحها والتمسك بالمكاسب التي حققتها في تعاملها مع المنطقة العربية، وخصوصا جزر الإمارات ورفضت التحاور العقلاني الذي قدمته الأخيرة بالاتجاه إلى التحكيم أو القضاء الدولي، وأصرت على استمرار وجودها والإصرار على التعامل والتفاوض الثنائي، ولا شك في ان التفاوض الثنائي - في حل المشكلات الدولية المستعصية - يعكس علاقة توازن القوى بين الطرفين، ومن ثم فهو لا يستطيع ان ينطلق لأن كل قوة أو دولة تقدم طروحاتها، ولهذا لم يتحقق تقدم يذكر في حل مشكلة الجزر على سبيل المثال، كما لم يتحقق تقدم يذكر في أي تعامل ثنائي بين الكثير من الدول الأخرى خصوصا عندما اختلفت مصالحها وموازين القوى بينها ما لم يحدث تغير جذري في فلسفتها السياسية ومنهج تعاملها أو توجهات نظامها السياسي.

ولكن إذا كانت دول الخليج تعرف أكثر من غيرها من الدول العربية تاريخ إيران وحضارتها، وتعرف منهجها السياسي وفلسفتها وتحرص على التعامل الودي والحذر معها، فإنه من الضروري ان تتقدم، والبناء على ذلك، نحو مزيد من تعميق الفهم المتبادل بين الدول العربية ككل وبين إيران لكي يتقدم الحوار بين الطرفين نحو خطوات أبعد من الموقف الراهن وذلك لصالح الجانبين. وتقدم بعض المقترحات التي هي بطبيعها ليست شاملة ولكنها تؤكد الدعوة إلى مزيد من الحوار والاهتمام بل المناشدة لذوي الرأي والخبرة للتقدم بمقترحات إضافية ومكملة بل وبمبادرات تستهدف تحقيق مزيد من التعاون والتقارب العربي الإيراني وتأخذ في حسبانها مصالح الطرفين، وتبنى على العناصر الحضارية والدينية المشتركة وهي في التقدير عناصر أكثر فعالية ويمكن ان تحول الطرفين إلى قوة متآزرة.

ومن هذه المقترحات تعزيز الحوار بين المذهبين الرئيسيين في الحضارة الإسلامية الشيعي والسني، تعزيزا يركز القواعد والمبادئ المشتركة، وينحي جانبا العناصر المختلف عليها، ومن المقترحات قيام حوار أمني بين الطرفين لتعميق وبلورة مبادرات تتعلق بأمن الشرق الأوسط والذي يضم إيران وتركيا والمنطقة العربية، ومن المقترحات تعزيز التعاون الاقتصادي لتحقيق تجمع يقوم على تبادل المصالح والمنافع في ظل التوجه العالمي للتجمع والتكتل الاقتصادي، ومن هذه المقترحات عقد المزيد من الندوات الثقافية والفكرية والأكاديمية وتبادل الزيارات على المستويات المختلفة سعيا للوصول إلى مزيد من التفهم لطموحات وآمال ومصالح كل طرف حتى يأخذ الطرف الآخر ذلك كله في حسبانه، عندما يبحث سياساته ويتخذ قراراته ومن ثم تجنب الخطأ في الحساب أو في التقدير.

ولا شك في ان الحساسيات الإيرانية العربية لها جذور تاريخية وأحيانا مبنية على اختلاف في المصالح، ولكن أيضا لا شك في ان هناك تشابها وتقاربا في المصالح وانه لا ينبغي المبالغة والتأكيد على دواعي الاختلاف، بل من الضروري البناء على عناصر التشابه، وليست هناك دولة لا تختلف جزئيا عن دولة أخرى بحكم تراثها وتاريخها ومصالحها، ولكن المهم هو الالتجاء والتذرع بالحوار لحل المشكلات وتعزيز المصالح المشتركة، ولا ريب في ان إيران تمثل قوة رئيسية إقليمية في منطقة غرب آسيا وان الدول العربية تمثل قوة أخرى وان المصلحة تقتضي تحاور القوتين من أجل البناء على القواسم المشتركة وتعظيمها.

ولقد لفت نظري عقد جولة من الحوار بين أكاديميين مصريين وإيرانيين في طهران، وهذا النمط من الندوات ضروري لإزالة سوء الفهم، ولكي تدرك النخب المثقفة في الجانبين أهمية ذلك وضرورته، حتى يمكن ان تساعد السياسيين وأصحاب القرار في اتخاذ الموقف السليم والصحيح، بعيدا عن الشكليات والحساسيات المبالغ فيها أحيانا، والتي أعاقت عودة العلاقات المصرية الإيرانية، على رغم ان كلا من الرئيسين حسني مبارك ومحمد خاتمي بل وقبله رفسنجاني كانوا حريصين على ذلك، كذلك عملت الدبلوماسية المصرية والإيرانية كثيرا من أجل ذلك عبر سنوات عدة، وشاءت لي ظروف عملي السابق ان أكون قريبا من هذا الجهد الدبلوماسي في إطار الأمم المتحدة.

ولا مراء في انه إذا كان العالم كله يتغير والخطر يتزايد ضد العرب والمسلمين، فإن الاحتكام إلى كلمة سواء بين أهم الدول العربية والإسلامية، يصبح فرض عين، ويضحي تجاوز الخلافات والشكليات ضرورة عاجلة قبل فوات الأوان

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 101 - الأحد 15 ديسمبر 2002م الموافق 10 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً