العدد 111 - الأربعاء 25 ديسمبر 2002م الموافق 20 شوال 1423هـ

مصطفى الحلاج: ارتجالات وتحليجات لم تكتمل

القطيف - حسن المصطفى 

تحديث: 12 مايو 2017

لم يكن التشكيلي الفلسطيني الراحل مصطفى الحلاج يظن أنه في يوم من الأيام سيكون له نصيب مأسوي من الممات كالذي حصل له. فأن يموت مشردا وبعيدا عن وطنه فذلك أمر وارد. وأن يموت فقيرا من دون مال ورغيف، هو أمر غير بعيد، حاله حال المشردين في الأرض. ولكن أن يموت محترقا بنار تأخذه وتأخذ جزءا من أعماله الفنية معها، فذلك ما لم يكن في حسبانه ولا في حسبان محبيه ورفاقه.

ربما تكون ضريبة التشابه الاسمي بينه وبين الحسين بن منصور الحلاج أن يكون رحيل كلا الاثنين مأسويا. فالحلاج الأول، استشهد مصلوبا تأكل من قلبه الطير، وهو يصبغ وجهه ويديه بالدم على هيئة المتوضئ، وحينما سئل ماذا تفعل، أجاب سائليه: «ركعتان في العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم»، مرتحلا نحو الملكوت بمأساة صوفية وإنسانية مطلقة. وكذا الحلاج الثاني، احترق لتكتمل رحلة الفنان، الفناء في ذات «المحبوب»، ليتوحد مع ذاته وأعماله ومطلقه، مكملا بذلك أسطورته التي ابتدأها، لأن «الأسطورة لا تنجز في عمر، أو في فترة محددة، هي تكتمل بالموت» على حد قوله.

مصطفى الحلاج، على رغم حياته المليئة بالصعلكة، وبالشطحات الصوفية والسريالية، وعلى رغم كثير من الترحال بين عواصم عربية متنوعة، كان آخرها «دمشق»، وعلى رغم انتمائه إلى جيل «الثورة الفلسطينية»، وما حمله هذا الجيل في وجدانه من حلم «العودة»، و«التحرير»، وما ارتسم بداخله من نكسات وهزائم بعد هذا العمر، على رغم كل ذلك استطاع أن يكون «شيخ التشكيليين الفلسطينيين» بامتياز، بوصفه أحد أهم من اشتغل في فن الغرافيكس في الوطن العربي، ورائدا من رواده الكبار. في أعمال الحلاج تتكرس عدة رموز ومناخات معينة، صارت بمثابة «العلامة»، و«الدلالة» على لغته الفنية. وهي ضمن أعماله، كانت تجيء وتروح بحسب حركة التجربة وتراكمها، وما ينعكس من مناخات سياسية عليها، كون الحلاج ارتبط بحركة النضال الفلسطيني، وكان يؤمن بارتباط الفن بالثورة وحركة التحرر.

المرأة، الحصان، الأساطير الفرعونية والكنعانية، الديك، الحيوانات، الهلال والصليب، الزرع... كل هذه الرموز لم تكن أشكالا جمالية تملأ فضاء اللوحة وحسب، أو محاولة تزويقية منه لجمع رباط عناصر متفرقة في خدعة بصرية يحاول من خلالها إلهاء المتلقي وإشغاله، بل كان حضورها حضورا واعيا ومقصودا، ارتبط بدلالة كل رمز على حدة، ودلالة هذه الرموز مجتمعة مع بعضها بعضا. المرأة حضرت بوصفها رمزا لـ «الخصب»، ومنبعا للعطاء، ومكونا رئيسيا من مكونات النضال الفلسطيني. هذا الحضور للأنثى، كان بعدة مستويات: فتارة توحي لبدايات الخلق والتكوين، وتارة ترمز للبحث عن حال من الصفاء والأولية (البدائية) لا بالمعنى السلبي، بل بالعودة إلى الأبجدية الأولى، والعري المقدس، لذلك نراها تحضر عارية في كثير من الأعمال، من دون أن يكون عريا مبتذلا أو شهوانيا، وإنما هو عري الخليقة الأولى. أضف إلى ذلك، تحضر الأنثى في صور المعانات الحياتية اليومية، بوصفها ربة أسرة، ومشاركة في مهمات البيت، فنراها تحمل جرار الماء، وتحمل الطعام، وتغسل الملابس، وتساعد الرجل في مهماته، وصلا لدورها النضالي، كشريكة في تحرير الأرض وصناعة حلم العودة. الخيل، تحضر في كثير من الأعمال. وهي تتبدل بحسب رؤية الحلاج ذاته. هذه الخيل كان لها وهجها وعنفوانها وشموخها زمن النضال العربي، إبان أبجديات العمل المقاوم، لذلك حضرت في لوحاته مرفوعة الرأس، لكننا نجدها في أعمال أخرى مطأطئة رؤوسها إلى الأرض، في حال من السكون والخذلان، يتلبسها حال الهزيمة الذي يسود الأمة، وهو الأمر ذاته الذي يؤكده الحلاج «بعض أحصنتي طأطأت الرأس لتعبر عن الوضع العربي الراهن، وليس انكسارا». ما يؤكد أن هذه الطأطأة لم تكن انكسارا، و«الديك» الذي يتكرر في الكثير من أعماله، والذي «لايزال يصيح، لأنه هناك يوميا فجر»، وعمله الضخم الذي ظل يشتغل عليه من العام 1997 ووصل طوله لـ114 مترا، وهي الجدارية الضخمة التي التهمتها النيران معه، فكان الفقد فقدين: فقد الحلاج وفقد عمله. ما ميز الحلاج ضمن منجزه الفني هو بساطة الشغل وابتعاده عن التكلف. فقد ظل يشتغل على «المازونيت»، وهي مادة رخيصة، يشتغل عليها حفرا بالسكين والإبرة. وعلى رغم بدائيته هذه، فإنه أنجز أعمالا لم يستطع أن ينجزها كثير ممن يشتغلون حفرا وطباعة بتقنية حديثة جدا





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً