العدد 111 - الأربعاء 25 ديسمبر 2002م الموافق 20 شوال 1423هـ

الولايات المتحدة، العراق، والمعارضة العراقية: حدود التذاكي وحدود القوة

بشير موسى نافع comments [at] alwasatnews.com

.

شهدت المسألة العراقية خلال الايام القليلة الماضية تطورين مهمين: الاول هو تقديم البيان العراقي الخاص بأنشطة التسلح إلى مجلس الامن طبقا للقرار 1441، والثاني هو انعقاد مؤتمر المعارضة العراقية في العاصمة البريطانية لندن. كلا التطورين يرتبط بالآخر وكلاهما سيلعب دورا مهما في تحديد ملامح عراق المستقبل، بشكل مباشر أو غير مباشر.

لقد سبق وأوضحت في هذا الموقع من «القدس العربي» ان مسألة العراق قد تجاوزت الحوار عن الحق والباطل، أو العدل والظلم في النظام الدولي، إذ ليس هناك من شك في أن الولايات المتحدة تفتقد كل مبرر لتهديد العراق، أو اي دولة اخرى في المنطقة، وان للعراق الحق في تطوير قدراته التسليحية طالما ان هذه السياسة تعبر عن إرادة شعبية وطنية. المسألة العراقية باتت، بعد سلسلة لا حد لها من اخطاء السياسة في بغداد، تتمحور حول منع وقوع الحرب وتجنب الاسباب المؤدية إليها. والواضح الآن، بعد ان تسلم مجلس الامن البيان العراقي، ان القيادة العراقية لم تتحرر من أوهام التذاكي التي شابت مجمل التعامل العراقي مع لجان المراقبة وهيئات الامم المتحدة منذ اكثر من عشرة اعوام.

التحرك العربي والعالمي الشعبي ضد الحرب هو امر مهم وضروري، وليس هناك من صوت يضيع هدرا. ولكن ان اتخذت واشنطن قرار الحرب فلا النظام العربي ولا الشارع العربي سيستطيع الوقوف امام هذا القرار. خيار الحرب هو خيار من يريدون تأجيج الصراع بين اميركا والعرب والمسلمين، وبالنسبة إلى هؤلاء ليس هناك من سيناريو افضل من سيناريو حرب تخاض وسط تأجيج حال الغضب في المدن العربية والاسلامية. وهناك من الادلة ما يكفي للاعتقاد بأن الشعب العراقي لن يدافع عن نظامه الحالي، كما ان الجيش العراقي لن يستطيع مواجهة آلة الحرب الاميركية التي تحشد الآن في غالبية مناطق الجوار العربي للعراق. الوسيلة المهمة لمنع الحرب والكارثة هي التعاون العراقي مع المراقبين وقرار مجلس الامن، وهو القرار الذي وفر، بعد تعديلاته الفرنسية، للعراق فرصة مواجهة التهديدات الاميركية وكسب الرأي العام الدولي وحشده ضد مخططات الحرب.

وبعكس التوقعات المتسارعة، وعلى رغم الحشود الانجلو - اميركية العسكرية المتزايدة فإن الرئيس الاميركي لم يتخد حتى الآن قرارا بالحرب. بل ان معسكر المحافظين الجدد، الذي يخطط دائما وحتى قبل وصول بوش إلى البيت الابيض، للاعتداء على العراق، قد ابعد جزئيا عن إدارة السياسة الاميركية تجاه العراق. وقد جاء رد الفعل الاميركي - البريطاني المحسوب على بيان التسلح العراقي ليدلل على ان الموقف الثنائي يتجه إلى نهايته. ما يعزز هذه القراءة ان الادارة الاميركية تطلب الآن زيادة عدد المراقبين في العراق في حين ان قرار الحرب يتطلب نهاية لعمل المراقبين وخروجهم من بغداد. وربما كان هذا الموقف احد اهم التعهدات التي قدمتها الادارة الاميركية إلى فرنسا و(روسيا) قبل التصويت على القرار 1441. وهذا بالتأكيد احد اهم الشروط التركية للتعاون مع واشنطن في حال وصلت الامور إلى الحرب.

هذا لا يعني بالطبع النظر إلى الحشود العسكرية الانجلو - اميركية باعتبارها مجرد مظاهرة. عندما تتدافع الجيوش على المستوى الذي نلحظه الآن فإن احتمال الحرب لابد ان يؤخذ على محمل الجد. وقد اجد ابرز الاخطاء العراقية في 1955 - 1991 ان بغداد، وحتى في ذروة القصف الجوي المنهجي، لم تضع احتمال الحرب البرية في حسابها. درس القرن العشرين الذي يغيب عن الكثيرين خارج المنظومة الغربية ان الغرب الحديث قد ولد وعاش في اتون الحروب وانه يحافظ على دوره وموقعه المسيطر في النظام الدولي من خلال التوظيف الدائم وغير المتحفظ (بل وغير الانساني) لاداة الحرب. على ان الشروط الحالية للوضع الدولي تجعل المسئولية العراقية في منع الحرب مسئولية رئيسية. والملاحظ ان القيادة العراقية لا تتصرف على هذا الاساس. فليس هناك من خلاف، مثلا، على ان كلا من بليكس والبرادعي، سيكون لهما القول الفصل في تقرير صحة المعلومات واعطاء شرعية الحرب في الإدارة الاميركية وتقديم المبرر لاشعال المنطقة. وقد كان تقدير بليكس والبرادعي للبيان العراقي تقديرا سلبيا في اتفاقهما معا على أن العراق لم يقدم جديدا وأن البيان لم يحمل الكثير من الايضاحات التي كانا ينتظرانها. هذا بالطبع مؤشر آخر على ان القيادة العراقية لا ترى خطورة الموقف ولا تستشعر حساسيته، وكما حدث من قبل فإن بدء استجواب العلماء العراقيين قد يضع حدا للكثير من اوهام التذاكي في بغداد.

الولايات المتحدة دولة بالغة القوة، دولة لا تجد منافسة ندية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وقد كان بإمكان الولايات المتحدة ان تستغل التعاطف الدولي بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر/ ايلول وتهاجم العراق مباشرة. ولكن للقوة حدودا، وكان التفاوض على صوغ القرار 1441 مناسبة مهمة لاظهار حدود القوة الاميركية. لقد جاء القرار ليعكس النفوذ الهائل الذي تتمتع به واشنطن في العالم. ولكنه جاء ايضا ليوفر فرصة ولو ضئيلة لمنع الحرب. القيادة العراقية حتى الآن لا يبدو انها ترى الأمور من هذا المنظار.

كان مؤتمر المعارضة العراقية، الذي عقد في ظل النقاش الدولي الواسع بشأن دلالات بيان التسلح العراقي، مناسبة اخرى لتأكيد حدود التذاكي الرسمي العراقي وحدود القوة الاميركية. في الوقت الذي تصف فيه بغداد المعارضة بأنها مجموعات يائسة لا وزن لها، ضم المؤتمر ممثلين عن غالبية القوى العراقية السياسية والطوائف والأعراق كافة، إلى جانب العشرات من الشخصيات المدنية والعسكرية ذات التاريخ والوزن والجذور.

ثمة شبهات كثيرة تثار حول مجموعات وشخصيات معينة ضمن المعارضة العراقية، سواء من حيث ماضيها السلطوي او ارتباطاتها الاميركية. وليس هذا بالغريب على اية حال، فمثل هذه الظواهر توجد في غالبية الساحات السياسية العربية والإسلامية، بل وحتى في بعض الدول الاوروبية الرئيسية. المهم ان القوى العراقية الرئيسية، العربية والكردية، الشيعية والسنية، قد اظهرت قدرا كبيرا من الاستقلال والقدرة على التعبير عن المصالح الوطنية العراقية. وقد دلل انعقاد المؤتمر والجدل الكبير داخله بشأن قضايا التمثيل والبيان السياسي خطأ الذين رأوا المعارضة العراقية باعتبارها ميدانا لا مركز ثقل سياسيا له او شرذمات يستحيل اجماعها على تصور.

الفرضية الاخرى التي اسست لتوقعات فشل المؤتمر وتخللت معظم التقارير الاعلامية بشأن اعماله كانت فرضية استحالة التآلف العرقي والطائفي بين قواه. العراق بالطبع بلد بالغ التعقيد تتداخل في تكوينه الطوائف والاعراق ولكن المسألتين اللتين سيطرتا منذ فترة ليست قصيرة على التدافع السياسي العراقي كانتا علاقة العرب بالاكراد وعلاقة السنة بالشيعة. وقد توقع الكثيرون ان تشكل قضية الفيدرالية، التي تمثل المطلب الكردي الرئيسي، والصعود الشيعي السياسي في صفوف المعارضة، كعب اخيل المؤتمر. ولكن ما حدث كان اتفاقا شبه اجماعي على الفيدرالية، بتأييد من الكتلة القومية العربية عالية الصوت والتأثير. بل ولعب الزعيمان الكرديان، الطالباني والبرزاني، دورا فعالا من اجل انجاح المؤتمر. دورا اثار انتباه واعجاب قطاع واسع من المراقبين. وعلى رغم الدوي الهائل حول تمثيل السنة، خرج المؤتمر بلجنة تنسيق انتقالية ضمت عددا لا يقل عن النصف من السنة العرب والاكراد والتركمان، مؤكدا من جديد ان الطائفية التي شابت مراحل كثيرة من التاريخ السياسي العراقي الحديث لا تعني بالضرورة ان المجتمع العراقي مجتمع طائفي وان قوى الوحدة في العراق اعمق جذورا وابلغ تأثيرا من قوى الانقسام والتجزئة.

اما الفرضية الكبرى التي لاحقت المؤتمر قبل وبعد انعقاده فهي انه مجرد اداة في يد الادارة الاميركية وان نتائجه لا تتعلق إلا بتوفير غطاء للعدوان الاميركي المتوقع على العراق. ان من السذاجة بالطبع تصور التطورات في ساحة المعارضة العراقية بمعزل عن التحرك الاميركي نحو الحرب. ثمة اموال اميركية تدفع لقوى عراقية معينة (على رغم ان مؤتمر لندن عقد من دون تمويل اميركي)، وهناك اسماء عراقية معروفة بعلاقاتها الوثيقة بدوائر المحافظين الجدد في ادارة الرئيس بوش وأرسلت من يمثلها إلى مؤتمر لندن ايام انعقاده. ولكن الحقيقة ايضا ان قرار الحرب الاميركي لا علاقة له بوجود المعارضة العراقية او توجهاتها، بل ان الواضح ان واشنطن لم تكن تريد جبهة معارضة متماسكة وان توصل مؤتمر لندن إلى تشكيل لجنة تنسيق انتقالية وخروجه بتصور سياسي محدد لم يكن امرا ترغب فيه واشنطن.

لقد حاولت الادارة الاميركية التدخل لفرض ارادتها على قوى المعارضة الرئيسية خلال فترة الاعداد للمؤتمر، خلال اعماله، وفيما يتعلق بنتائجه التنظيمية وتصوره لمستقبل العراق. ولكن قوى المعارضة الرئيسية (الاكراد، الوفاق، والمجلس الاعلى) نجحت في النهاية في تشكيل المؤتمر ضمن التصور الذي رأته الافضل، وفي الخروج ببيان سياسي اكد بشكل لا يحمل الجدل هوية العراق الاسلامية والتزامه مؤسسات التضامن العربي، وفي الاتفاق على هيئة عمل انتقالية تمثل القوى والاعراق والطوائف كافة. كان المتوقع ان يسيطر اصدقاء واشنطن على المؤتمر واعماله وان يفرضوا اجندتهم على نتائجه، ممثلة بما يسمى تقرير مجموعة الخبراء (الليبراليين)! ولكن ما انتهى إليه المؤتمر كان وضع اصدقاء واشنطن في حجمهم الطبيعي، أي قوة صغيرة على هامش ساحة واسعة النطاق لمعارضة ذات هوية وطنية، عربية واسلامية

العدد 111 - الأربعاء 25 ديسمبر 2002م الموافق 20 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً