العدد 112 - الخميس 26 ديسمبر 2002م الموافق 21 شوال 1423هـ

خلفيات وأبعاد أول اختراق عربي للنظام الأمني الإسرائيلي

خليل تقي comments [at] alwasatnews.com

بعد الكشف الجزئي على المعلومات عن اكتشاف الاستخبارات الإسرائيلية لشبكة تجسس تعمل لصالح حزب الله اللبناني على رأسها ضابط كبير، كتب أحد الصحافيين الإسرائيليين: «بعد خمسين عاما عندما سنفتح ملفات الاستخبارات، سنكتشف أن معلوماتنا عن حزب الله توازي صفرا، فيما تمكن هو من اختراقنا ونجح في معرفة مكامن ضعفنا واستغلالها بطريقة بالغة الذكاء والدقة»، هذا الكلام قاله الصحافي الإسرائيلي غداة الكشف عن أكبر صفعة يتلقاها الجيش الإسرائيلي في تاريخه بعد أن تمكن حزب الله من اختراقه أمنيا في سابقة لم تحدث منذ بدء الصراع العربي - الإسرائيلي، وفق اجماع المحللين الإسرائيليين كافة...

لماذا نجح حزب الله حيث أخفق الآخرون؟

لا شك في أن سر النجاح الأول يعود إلى نشأة حزب الله في مطلع الثمانينات، فهو أنشئ أساسا ليكون حزبا مقاوما للعدو الصهيوني ولم يكن حزبا سياسيا اضطرته الظروف إلى التحول فجأة إلى حركة مقاومة، وبالتالي فإن أجهزته بتركيبتها الأصلية أعدت باتقان واحكام، وتطورت خلال الأعوام العشرين الماضية مستفيدا من التقدم التكنولوجي وتراكم الخبرات بعد أن تحول الصراع مع الأجهزة الإسرائيلية إلى صراع أدمغة حقيقي بلغ ذروته ابان الاحتلال لجنوب لبنان من خلال التغييرات المتلاحقة على التكتيك العسكري على أرض المعركة، والذي مر باخفاقات ونجاحات توج في النهاية بانتصار مدو غير مسبوق في الصراع العربي - الإسرائيلي.

الأمن مفتاح التفوق

وسر النجاح كان أيضا في معرفة حزب الله بأن الأمن هو مفتاح التفوق، ولذلك كان العمل الدؤوب على خطين متوازيين، الأول منع الاختراقات الداخلية، أي قطع المعلومات عن العدو، والثاني الاختراق لجسم هذا العدو والحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات التي تتيح الضربات الاستباقية وتتجنب أية ضربة غير محسوبة، وهو ما عانت منه معظم التنظيمات الفلسطينية التي خسرت عددا كبيرا من كوادرها وقياداتها بسبب الاختراقات الأمنية المذهلة في صفوفها.

وفي هذا الإطار شكّل حزب الله جهازا أمنيا بأسلوب الخلايا المنفصلة غير المترابطة، عملت على جمع المعلومات واستخلاص النتائج بعيدا عن الجهاز السياسي الذي تصل درجة معرفته عما يجري من حوله إلى الصفر، ولعل غياب التعليقات حول (عملية شبكة التجسس الأخيرة) ليس فقط بهدف عدم الافصاح عن المعلومات للعدو فقط، بل لغياب هذه المعلومات أصلا عن الطاقم السياسي، الذي ربما ذهل بسبب الاختراق، كغيره من عامة الناس، وللتدليل على صحة هذا الكلام، ان تحركات الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله لا تخضع لهواه، وقد تلغى أو تؤجل كثير من تحركاته وفق ما يراه طاقمه الأمني الذي يتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب من دون الحاجة إلى تبريرها، وآخر الشواهد على ذلك كان اختصار السيد حسن نصرالله كلمته التي لم تتجاوز مدتها ثلث ساعة خلال التظاهرة الضخمة التي نظمها الحزب في الثامن والعشرين من سبتمبر/أيلول الماضي بعد أن أبلغه المسئول عن حمايته بضرورة ذلك.

اذن، فهذا النجاح في حماية الذات من الاختراق والقائم على الفصل الكامل بين الأطر السياسية والأمنية والعسكرية زاده متانة، وتطوير تدريب لعناصر منتقاة، تعد إعدادا جيدا لتبوء المسئوليات بعيدا عن المحسوبيات الموجودة في تنظيمات أخرى، ولعل استشهاد نجل الأمين العام للحزب كمقاتل عادي على الجبهة كان دليلا ساطعا على ذلك، وقد تمكن الحزب من حماية نفسه جيدا بعد اغتيال الأمين العام السابق السيد «عباس الموسوي» بداية التسعينات مستفيدا من الثغرات البسيطة والقاتلة التي أدت إلى ذلك.

الوصايا العشر الذهبية

وهناك مجموعة من مبادئ تحكم عمل هذا التنظيم، وهي تشبه (الوصايا العشر الذهبية) التي يجب عدم الاخلال بأي بند من بنودها لأنها ستؤدي حتما إلى انهيار العمل بالكامل، وهذه الوصايا الذهبية العشر هي:

أولا: اعرف عدوك.

ثانيا: اضربه في الوقت المناسب.

ثالثا: لا تزهو بأي انتصار.

رابعا: الالتزام والانضباط.

خامسا: الصمت أبلغ من الكلام.

سادسا: السرية أساس النجاح.

سابعا: عدم تداخل المسئوليات.

ثامنا: لا تستخف بعدوك فتخسر ولا تكبّر من حجمه فيهزمك.

تاسعا: لا تغرك المظاهر الدنيوية.

عاشرا: الهدف مرضاة الله تعالى.

وعلى الزاوية الأخرى من المعركة، كان الهم الأساسي لحزب الله هو كيفية تحقيق اختراقات في الجسم الإسرائيلي، وكانت النجاحات الأولى في استغلال (الخاصرة الرخوة) لهذا العدو فيما كان يعرف بـ (جيش لبنان الجنوبي)، إذ استخدم الحزب عملية الترغيب والترهيب مع عناصر وضباط هذا الجيش، الذي انهار معنويا ونفسيا بعد سلسلة ضربات ناجحة للمقاومة، وأكبر تغلغل أمني للحزب داخل الشريط الحدودي سمح باستغلال ضعفاء النفوس من جهة، والاستفادة من العناصر التي كانت ظروفها أقوى منها ودفعتها إلى العمالة، وقد حققت هذه السياسات أهدافها بصورة مذهلة دللت عليها سلسلة التصفيات والاغتيالات الناجحة لكبار ضباط ومسئولي هذا الجيش، والانهيار السريع للعملاء في الخامس والعشرين من مايو/أيار 2000 أمام المد الجماهيري الذي استخدمه الحزب (لقضم) المناطق المحررة بأسلوب أبعد المواجهة العسكرية المباشرة وحقق أهدافه بأقل الخسائر.

وعلى رغم أهمية كل ذلك فإنه نقطة في بحر ما كشفت عنه «إسرائيل» أخيرا عن نجاح حزب الله في تشكيل شبكة تجسس داخل قيادتها العسكرية برئاسة المقدم «عمر الهيب» البالغ من العمر أربعين عاما، الذي قاد مجموعة من عشرة أشخاص قاموا بتسريب معلومات ازاء انتشار الجيش الإسرائيلي شمال فلسطين المحتلة، ومعلومات على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة مقابل مبالغ من المال وكميات كبيرة من المخدرات، وهذه المعلومات التي لم يعلق عليها حزب الله سلبا أو ايجابا، تشكل انتصارا مدويا لهذا الحزب الذي تعملق على ذاته وتفوق عليها وباتت أجهزته توازي الأجهزة العاملة في الدول المتقدمة، وذلك لعدة أسباب وعوامل، في المقدمة منها:

1- نجاح الحزب في اعداد مراكز استراتيجية لدراسة المجتمع الإسرائيلي بكل نقاط قوته وضعفه، ونجاحه في استغلال هذه النقاط جيدا والتغلغل من خلالها إلى عمقه.

2- اعداد كوادر مهمة تجيد اللغة العبرية وقادرة على متابعة آخر التطورات السياسية والأمنية والعسكرية.

3- وجود جهاز مهم قادر على تجميع المعلومات وتحليلها وتوظيفها في الزمان والمكان المناسبين.

4- استغلال الفوارق الاجتماعية داخل المجتمع الإسرائيلي بين العرب والبدو واليهود والعمل على ايجاد صلات وصل معها بأساليب لاتزال مجهولة حتى الآن.

قراءة ناجحة للموقف السياسي

ولمواكبة هذه التعقيدات الأمنية عمل حزب الله على خط مواز لحماية انجازاته وعمل في سياق (براغماتي) يقوم على قراءة موضوعية للمعطيات المحلية والاقليمية جعلت منه تنظيما مختلفا عن غيره مما يعرف بالأحزاب الأصولية، وعلى رغم الجذور الايديولوجية التي تحكم مسار التنظيم وأسلوب الحياة المختلف لعناصره المؤمنة بأن الطريق التي تسلكها هي الأقرب للوصول إلى الجنة، فإن القيادة تحرص على أن تكون هذه الطريق بعيدة عن الغوغائية والفوضى والحسابات الفارغة، وبهذا نجح حزب الله في تقديم نفسه بصورة مغايرة فشلت معها الولايات المتحدة الأميركية و«إسرائيل» في لصق تهمة الارهاب به، ونأى بنفسه عن الخطاب المعادي للآخر لمجرد العداء، وبنى مواقفه على أسس صحيحة تقوم على تقويم الآخرين وفق عدالتهم ومواقفهم من القضايا العربية والإسلامية وليس وفق انتمائهم الديني، وهذا ما أكده السيد حسن نصرالله في الآونة الأخيرة من خلال ابراز العلاقة الجيدة مع أوروبا وحضوره مؤتمر الفرنكفونية واعتبارها عنوانا لحوار الحضارات.

وما كان لحزب الله ليحقق تلك الانجازات لو أنه أوغل في الوحول والمستنقعات اللبنانية، التي اعتبرها أمرا ثانويا أمام معركته الأساسية، وهو أمر سبب الكثير من الاخفاقات الداخلية غير المبررة ولكنها نأت به عن التلهي بملفات ثانوية كان لها تأثيرها السلبي على المقاومة في الثمانينات ابان حقبة الفوضى والصراع العسكري والاقتتال الطائفي المحلي، كل هذه الأسباب جعلت من حزب الله ينجح حيث فشل الآخرون، ولهذه الأسباب تهاب «إسرائيل» جانبه وتعتبره الخطر الاستراتيجي الذي يهدد وجودها على المدى القصير والبعيد، ولاسيما ان ما تم الكشف عنه ربما يكون غيض من فيض في حرب سرية المعلومات فيها قليلة والعمل فيها كثير وكبير، وهو ما يتطلب الحذر الدائم واليقظة المستمرة وعدم النوم على الأمجاد والنجاحات التي تحققت لأن «إسرائيل» يحكمها مجنون سبق أن شبه بثور هائج في غرفة خزف صيني، ومدعوم من رئيس أميركي يصفه الأميركيون أنفسهم بالأحمق والجاهل..

العدد 112 - الخميس 26 ديسمبر 2002م الموافق 21 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً