العدد 112 - الخميس 26 ديسمبر 2002م الموافق 21 شوال 1423هـ

الرهان الواهم... من فرنسا إلى أوروبا

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

هي الحضارة الغربية والثقافات الأوروبية بصرف النظر عن تنوعاتها وفروعها اللاتينية والانجلوسكسونية والجرمانية والاسكندنافية وغيرها... ومن ثم يلعب الانتماء الحضاري الغربي، الذي بدأ أوروبيا ثم انطلق عبر المحيط أميركيا، دوره الهائل في تعميق العلاقات والروابط بين الأوروبيين والأميركيين، حتى مع وجود هوامش من الخلافات السياسية أو الصراعات الاقتصادية.و إلى أن يحدث العكس، فمن الجنون المراهنة على صراع أوروبي أميركي في الوقت الراهن، أو على انقسام يؤدي إلى انفصال مثلا بين الحلفاء التاريخيين في صلب الحضارة الغربية، ومن الجنون تصور أن أوروبا مثلا تستطيع وقف الاندفاع الأميركي وقمعه أو حتى ترويضه: ذلك لأنها لا ترى حتى الآن في هذا الاندفاع والجموح الأميركي خطرا داهما يهدد حضارة أورروبا وحاضرها ورفاهية مستقبلها، بل ترى العكس...

نقول ذلك اليوم لأن بعض الحالمين أو الواهمين في بلادنا يتحدثون من باب الرفاهية الفكرية، عن بزوغ موقف أوروبي عموما وفرنسي خصوصا، يتناقض مع الموقف الأميركي، أو حتى يعارضه بقوة، تجاه قضايانا العربية الرئيسية، وفي مقدمتها قضية فلسطين والصراع العربي الصهيوني، وقضية الحرب على العراق التي بدأت ملامحها تظهر في الأفق.

ومن الخطورة بمكان أن نتعلق بهذا الوهم، لأن الحقيقة غير ذلك، والأخطر أن نخدع الرأي العام بالترويج لذلك، أما الأشد خطرا فهو المساعدة في بناء موقف سياسي يعتمد على الركون إلى أن «القوة الأوروبية» بقيادة فرنسا أو ألمانيا، تستطيع كبح جماح الاندفاع الأميركي، أو عرقلة الاستراتيجيات الأميركية في الشرق الأوسط، الذي أصبح الآن حكرا على النفوذ الاميركي، وحده، بعد ان طرد النفوذ الاوروبي اولا، ثم النفوذ السوفياتي وانفرد كلية بالمنطقة بكل ثرواتها وأسواقها ومواقعها الاستراتيجية، وتعهد وحده بحماية إسرائيل القاعدة المتقدمة للغرب في قلب الوطن العربي، تلك القاعدة التي اسستها أوروبا أولا، قبل أن تتولاها أميركا بالرعاية والحماية من بعد!.

ومثلما علمتنا فرنسا على مدى القرنين السابقين، مبادئ الحرية والإخاء والمواساة، وأعطتنا وأعطت كل البشرية أصول مواثيق حقوق الإنسان، وحرية الصحافة والرأي والتعبير، وكل منظومة الثورة ضد الظلم والفقر واليأس والديكتاتورية... تعطينا اليوم دروسا جديدة في ممارسة السياسة، وحين نفهم نحن، خصوصا في هذه المنطقة من العالم المصبوغة بالعواطف الجياشة أكثر مما هي مصبوغة بالعقل الراجح والتفكير الراشد، حين نفهم أن «المصالح» بمعناها الكامل الشامل هي القاعدة الأساسية في صوغ السياسة العامة للدولة الفرنسية، ندرك أن فرنسا الراهنة لا تستطيع أن تتناقض أولا مع الاتحاد الأوروبي - الذي أصبح اليوم 25 دولة - وثانيا مع الولايات المتحدة الأميركية، لأن مصالحها الحيوية مرتبطة بالطرفين في الأصل والأساس، وبعد ذلك تمتد هذه المصالح في أجزاء أخرى من العالم من الهند الصينية شرقا إلى كندا غربا وبينهما افريقيا والشرق الأوسط، بحكم الماضي الاستعماري القديم، ثم بحكم الثقافة والتأثير الفرانكفوني الحديث...

صحيح أن رئيس فرنسا الأشهر في العصر الحديث الجنرال ديجول قد وضع أسسا جديدة للعلاقات الفرنسية الأوروبية من ناحية، وللعلاقات الفرنسية الأميركية من ناحية أخرى، تعتمد التميز والتفرد والاستقلالية، لكن الروابط الاستراتيجية ظلت بل تزايدت، خصوصا في ظل العولمة الحالية.

تشاغب فرنسا في المجالات الدولية ضد أميركا أحيانا - كما يحدث مثلا في مجلس الأمن - ولكنها تظل مشاغبة تظل محصورة في اطار الصداقة والتحالف والمصالح العليا المتبادلة، وتبذل فرنسا جهودا بارزة للتمايز داخل الاتحاد الأوروبي - ربما - ولكنه تمايز في اطار الوحدة الأوروبية التي صارت واقعا سياسيا واقتصاديا وعسكريا هائلا، لا يناطح الامبراطورية الأميركية، لكنه يتكامل وينسق معها، تحت قيادة عسكرية أمنية حديد، هي حلف الأطلنطي الذي أكمل ابتلاع أوروبا الشرقية والوسطى وورث الامبراطورية السوفياتية وحلفها العسكري المتهاوي - حلف وارسو، وأخذ يدق حدود روسيا عبر الأورال، بل بدأ يتسلل إلى عمقها الاستراتيجي شرقا، مثلما بدأ يتلمظ لابتلاع الجوار الجنوبي لأوروبا، وهو لمن يعرف أو لا يعرف، الجوار العربي تحديدا بر الجناح الجنوبي لأوروبا المعبأ بالأزمات والمشكلات الحالية والمستقبلية!!

فرنسا هنا لها دور مركزي في الاطار الأروربي، مثلما أن لأميركا دورها المركزي القيادي في الاطار الغربي عموما... ولذلك فإن الرهان الواهم على التناقض بينهما يصبح رهانا فاشلا من أساسه في الظروف الراهنة على الأقل...

ولنأخذ النموذج من السياسة الفرنسية ومواقفها المختلفة تجاه قضيتي فلسطين والعراق... إذ لا ننكر أن لفرنسا تميزها تجاه العرب عموما - منذ حكم الجنرال ديجول ولانس - من الجزائر، وتجاه العراق وفلسطين خصوصا، في ظل العلاقات والمصالح الاقتصادية الهائلة، التي نسجها رؤساء فرنسا الأحدث، ديستان، وميتران، وشيراك، ناهيكم عن العلاقات الشخصية والودية التي ربطت الثلاثة بزعماء عرب كثيرين خلال العقود الثلاثة الأخيرة...

لذلك حرصت الدبلوماسية الفرنسية - الناعمة - على حماية هذه المصالح الهائلة، وتحديدا بعدما بدأت أميركا تطاردها وتطردها من ساحات دولية كثيرة، وفي اطار هذا الحرص غازلت العرب كثيرا ولا تزال وشاغبت اميركا كثيرا ولاتزال، لكن الغزل على العرب ظل عاطفيا شعوريا في الغلب الأعم، في حين ظل الشغب على أميركا في اطار الخلاف الشكلي والوقتي، الذي سرعان ما ينتهي، حتى لا تنقطع الروابط الوثقى ولا تتهدد أو تتناقص المصالح...

هكذا هو الموقف الفرنسي تجاه المشكلات العربية عموما، وتجاه القضيتين الأسخن، فلسطين والعراق، يعارض المواقف الأميركية المتشددة ضد العراق وضد الكفاح الفلسطيني، ويناوش في مجلس الأمن، لكن الموقف الفرنسي يعود في النهاية إلى شاطئ الأطلسي، وإلى الحضن الغربي الذي تقف له أميركا حاميا وقائدا وزعيما لا ينافس.

صبيحة يوم الجمعة الماضي، حين نشرت الصحف الفرنسية والأميركية تصريحا لمتحدث فرنسي رسمي، أعلن فيها انضمام فرنسا للجهد العسكري البريطاني - الأميركي، استعدادا للحرب ضد العراق، كان لنا لقاء وحوار مع وزير الدولة الفرنسي للشئون الخارجية «ميد موزليه» نفى فيه بطريقة غير قاطعة التصريح الرسمي المذكور، ثم خففه بدبلوماسية تقليدية ناعمة، كقوله إن تنفيذ العراق لقرار مجلس الأمن 1441 هو الحل وهو الفرصة الأخيرة أمام الرئيس صدام حسين، وعلينا أن ننتظر نتائج عمل المفتشين الدوليين، وللأمم المتحدة القرار الأخير، من دون الأخذ بمبدأ استخدام القوة العسكرية تلقائيا - «كما تقول أميركا وبريطانيا».

قلنا لكنكم لم تحددوا بصورة قاطعة هل فرنسا مع الحرب أو ضدها، أجاب نحن ننتظر تقارير المفتشين الدوليين وقرار الأمم المتحدة، لأننا ندرك مخاطر الحرب على الشرق الأوسط كله، فقد نكسب الحرب ولكننا قد لا نربح السلام والاستقرار، والمعنى الذي يقصده هو أن فرنسا تحاول «ترشيد» الجموح الأميركي البريطاني تجاه حتمية ضرب العراق عسكريا الآن وفورا... ولكنها ليست بالضرورة ضد تنظيف العراق من أسلحة الدمار الشامل ومن نظام الحكم القائم فيه...

يقول وزير الدولة الفرنسي للشئون الخارجية شارحا، لقد عدت منذ أيام قلائل بعد جولة في الخليج وبعض الدول العربية، وشعرت برضا عربي كامل ضد موقف فرنسا، بينما لم أشعر من المسئولين الذين لقيتهم بأي احترام أو ود للرئيس صدام حسين، وإن كانوا قد عبروا عن شعور بالحزن تجاه الشعب العراقي...

وماذا عن الموقف الفرنسي تجاه المأساة الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي الشرس؟، قال «موزليه»: فرنسا تدرك جيدا أن الشعب الفلسطيني مخنوق ومحاصر بالعنف، ونحن في المرحلة الماضية اقترحنا خطة لحل الصراع من خلال اللجنة الرباعية الدولية المكونة من: الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، لكن كل شيء قد تأجل الآن بسبب الانتخابات الإسرائيلية، وأثق في قدرة هذه اللجنة على انجاز المهمة بعد الانتخابات المقبلة، وموقف فرنسا يتبنى مشروع قيام دولتين في فلسطين، إسرائيلية وفلسطينية، حلا سياسيا مقبولا يجنب الشرق الأوسط المخاطر الجمة...

لكن أين فعالية وتأثير الدور الفرنسي النشيط في كل ذلك، لماذا يتراجع أمام الهيمنة الأميركية على السياسة الدولية خصوصا في الشرق الأوسط؟... يجيب الوزير الفرنسي قائلا: نحن في مرحلة من المهم دائما التذكير بالمبادئ الرئيسية الملتزمة والتي أسسها الجنرال ديجول تجاه العرب...

نحن - يضيف بثقة - في قلب أوروبا الأكثر قدرة على التحاور مع العرب، بحكم ما لدينا من تاريخ مشترك وجوار وصداقة وروابط ثقافية ومصالح قديمة، تنعكس بقوة على العلاقات السياسية والمصالح الاقتصادية التي نراها منتعشة ومزدهرة الآن...

هذه إذن هي حدود المواقف والمبادئ والقدرات الفرنسية، التي تحاول المحافظة على روابطها ومصالحها مع العرب من ناحية، وعلى ارتباطاتها وتحالفاتها الاستراتيجية مع أميركا وباقي أوروبا من ناحية أخرى...

فلماذا نطلب منها ما لا تستطيعه، ولماذا نبني أوهامنا على قدرة فرنسا وحدها أو أوروبا مجتمعة، على اجهاض الجموح الأميركي الهاجم بقوة شرسة في كل الاتجاهات؟ ولماذا بدلا من الوهم لا نبيّن مواقفنا ونصوغ سياساتنا بالعقل على أسس موضوعية، لا عاطفية، تقوم على المبدأ الفرنسي ذاته، المصالح مقابل المصالح؟...

ثم... لماذا نطالب غيرنا بأداء واجباتنا؟ ونترك عقولنا سارحة في شقاء واهم!

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 112 - الخميس 26 ديسمبر 2002م الموافق 21 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً