العدد 2138 - الأحد 13 يوليو 2008م الموافق 09 رجب 1429هـ

مَكَامِنُ العِلْمِ ومَهَابِطُ العَمَل... والعِلاقَةُ المفْتَرَضَة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أكتبُ اليوم خارج ملفي الدولي المُزمن، وداخل ملفات الآخرين ممن لهم فيها حظوة في المدارك والمتابعة أكثر مني. هذه الكتابة لا تعدو كونها سوى «فاصلة في مشوار» جاءت مُحيّنة مع «قطع» شوط أكاديمي يُفترض أن تُيقّن نهاياته عبر ربط قيمته مع ما يلائمها من فعل، أو بصورة أكثر مباشرة مع ما يصل مُخرجات التعليم بسوق العمل. فكانت الكتابة وكانت الفاصلة وكانت المناسبة.

وبالحديث عن موضوع العلاقة المفترضة ما بين سوق العمل والجامعة سواء تلك الوطنية أو الخاصة ينساب الحديث بشكل آلي نحو فضاءات متعددة، لكنها تبقى ذات منبت واحد، تبدأ من بيداغوجيا الصنعة الأكاديمية ولا تنتهي إلاّ إلى حيث الحاجات الطبيعية للسوق في ظل تعدد المشارب والاهتمامات الاقتصادية المختلفة.

ومع وجود هذه العلاقة الجدلية والمتشابكة بين الجامعة وسوق العمل تظهر المشكلات الأساسية والعمودية في هذه العلاقة، وبالتحديد أو بشكل فاقع في مسألة الحكامة القادرة على ضبط الإيقاع بين الجهتين، وأيضا البحث في طبيعة المخرجات الأكاديمية ومدى قدرة الجامعات على توجيهها وتصنيفها حسب احتياجات السوق.

ففي الوقت الذي تتكوّم فيه الطلبات الجامعية نحو العلوم الإنسانية بصورة عامة، تقلّ تلك الطلبات في كليّات العلوم والهندسة بمناشطها المختلفة. بل إن الملاحظة في ذلك قد تنسحب إلى حيث التوجهات الطلابية على مستوى الميول الأصيلة للدخول في مثل هذه المجالات العلمية أو تلك. وربما يكون السبب الأساس في تلك المفارقة هو تصاعدية التحدي الذهني الذي تقوم عليه مثل هذه العلوم في قبال العلوم الأخرى، والتي بالتأكيد قد تكون اختبارا حقيقيا لمجموعات هائلة من الطلاب لا تقبل مثل هذه التحديات بقدر استمرائها للجهد الأكاديمي المتيسّر والمتاح، وهو ما وجدناه بشكل رئيس في المشاكل التي كانت تعاني منها وزارة التربية والتعليم فيما يتعلق ببعض التخصصات ذات العلاقة وبالخصوص مع مُخرجات الذكور.

رغم أنني أستدرك هنا فأقول ان الإحساس بتلك المشكلة قد بدأ، وبدأت معه طرق التفكير في آليات حلحلتها، سواء عبر بوابة الجامعات الخاصة أو حتى البعثات القائمة وفقا لجداول التدريب المهنية.

بطبيعة الحال فإنني وضمن هذه الإثارة لا أقرر عملية ميكانيكية قسرية ما بين الجامعة وسوق العمل؛ لأن الجامعة لم تُوجد إلاّ لإنتاج المعرفة والفتوحات الإنسانية في العلوم، وليس لمواكبة حاجات السوق ومتطلباته، لكنني أيضا لا أستطيع إهمال هذا الموضوع وإن جاء في مرتبة لاحقة لإنتاج المعرفة، وفي ذلك يُمكنني في هذا المقام الإشارة إلى عدد من الموضوعات والتي اهتمت بها منظمات إقليمية وعالمية:

(1) وهو المتعلق ببنيويات نمذجة سوق العمل والعلاقة المفترضة بين ذلك والتعليم العالي. فضمن هذا المحور تتجه الإشارات نحو ما قرّرته منظمة العمل العربية لتطوير السوق وتجسير ذلك التطوير مع المُخرجات الجامعية، كتعزيز مفهوم العمل باعتباره قيمة وليست وسيلة لمصدر الدخل فقط، والتأكيد على أهمية دور التوجيه والإرشاد المهنى سواء للعاملين فعليا في السوق أم أؤلئك المُهيئين لدخول تلك السوق بغية الحد من مشكلة البطالة من خلال إعداد دليل مرجعي للتوجيه والإرشاد تتبناه الجهات المعنية.

وأيضا إيجاد آلية لمشاركة القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني في مجالات التدريب والتشغيل في إطار الشراكة الحقيقية بين مختلف الجهات والهيئات والمنظمات المعنية بتنمية وتشغيل القوى العاملة وتعزيز وتدعيم التنسيق والتعاون فيما بينها في مواجهة تحديات التشغيل، وإحداث هيئات ومجالس للتعليم الفني والتدريب المهني تضم ممثلين عن جميع الأطراف المعنية، وتنسيق جهودها في مجال وضع وتنفيذ السياسات والبرامج التعليمية والتدريبية وتحديثها باستمرار لمواكبة المتغيرات والتطورات العلمية والتكنولوجية.

وهي كلها توصيات قررتها المنظمة، ويُمكنها أن تكون صالحة لتأسيس لظروف نوعية لنمذجة السوق، وربط عملية النمذجة مع الظروف الجامعية، أو بالأحرى مع المُخرجات الجامعية التي تتشابك بشكل طبيعي مع ظروف السوق.

(2) وهو المتعلق بخصائص السوق وتحدياتها وعلاقة كل ذلك بالجامعة. فسوق العمل البحرينية كغيرها من الأسواق المحيطة الأخرى، بها نَفَس اقتصادي ريعي نشط، كان موجودا وبقوة بسبب طبيعة الأنظمة البترولية القائمة.

وبالتالي بقاء القطاع العام مستأسدا على غيره من المناشط من الفئات المتوسطة والصغيرة، رغم وجود زحافات اقتصادية خاصة بعد قيام اتفاق التجارة الحرة. وهو ما يعني عدم وجود ميزان ضابط ما بين المُخرجات التعليمية والمناهل التي انسجمت معها وبين طبيعة سوق العمل التي ربما لا تحكمها ضوابط تتلاءم مع تلك المخرجات الأمر الذي يؤدي حتما إلى إيجاد خلل مؤسساتي وفني بين الجهتين سيؤثر لا محالة على العمل المشترك للقطاعين.

فالخطط التي تُقررها مجالس العمل المحلية والإقليمية والعالمية يجب أن لا تغفل ضرورة تساوق مشروعات التحديث في السوق وبين مسارات التطوير الجامعية وضرورة الانسجام بينهما، لإيجاد التكامل من جهة، وفك مساحات الاشتباك التي قد تحصل بسبب رداءة التنسيق من جهة أخرى.

(3) وهو ما يتعلق بتعدد أسواق العمل والدور الذي يقوم به القطاع العام والقطاع غير المنظم وعلاقة ذلك بالجامعة. بالتأكيد فإن البحوث الحديثة للتعليم تذهب إلى مزيد من الهامش للقطاع الخاص الذي باتت دورات الإنتاج مرتبطة به لما يكتنفه من تنافس ومضاربات واستثمارات وتقديس العمل النهائي.

وبالتالي فإن عدم وجود محاكاة بين تلك التأسيسات النظرية وطبيعة السوق سيؤدي إلى ازدواجية إجرائية أو على أقل تقدير إلى وجود سياسات متضاربة أو متنافسة داخل المؤسسات الصناعية والتجارية كما أسلفنا من قبل، لكن الأكثر من ذلك هو مدى تقديم العطاءات المتوازنة ما بين القطاع العام أو القطاع الخاص.

فمثلا يرغب الكثير من مُخرجات التعليم إلى الوثوق بالقطاع العام لأنه يُوفّر ضمانات اجتماعية ووظيفية أكثر أمنا من بقية المؤسسات والشركات المتوسطة والصغيرة التي تنتظم في مسطرة القطاع الخاص.

وهو ما يعني الحاجة الماسّة إلى تقوية مزايا تلك المؤسسات لكي تضمن وجود الرغبة لدى المُخرجات الجامعية في الركون إليها كجهة عمل واعدة، تستطيع تقديم ما ينافس الموجود داخل المناشط العامة.

وأمام هذه الإشارات أرى من اللازم أن يُصار أمرها إلى همّ مُقدّم. يُنظر إليه على أنه مكمّل حقيقي لمشاريع التنمية، وضبط إيقاع السوق والجامعة معا لعصر آخر قطرات الفائدة من الأولى للثانية والعكس.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2138 - الأحد 13 يوليو 2008م الموافق 09 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً