لعلها كانت من أجمل المصادفات التاريخية أن تتزامن عملية إطلاق سراح الأسرى حديثا في لبنان وما حصل بعدها من التفاف نادر حول القضايا المصيرية وذلك مع اقتراب حلول الذكرى الـ56 لثورة 23 يوليو/ تموز في مصر، والتي اقترنت بشكل كبير في مشروعيتها المبدئية والسياسية بشخص الزعيم الراحل جمال عبدالناصر (رحمه الله).
وفي حين يعتبر البعض أن الثورة إنما كانت مشروعا ناصريا خاصا انتهت برحيله وانقلاب الرفاق السابقين على مبادئها وأسسها لاحقا أو بالأحرى انقلاب آخرين على بعضهم بعضا، يرى آخرون على الجانب النقيض أن ثورة يوليو هي ذات أبعاد أوسع بكثير ومن الحيف وقلة الاطلاع أن تحصر في شخص القائد عبدالناصر ورفاقه فهي بامتياز ثورة الإنسان المصري أو ثورة الإنسان العربي ضد الاقطاع بجوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية وضد القبضة الامبريالية التي تريد أن تتحكم بمصيره، أو هي ثورة الطبقة الوسطى، أو ثورة الكرامة الوطنية ضد الاحتلال وأذنابه وعملائه وغيرها من رؤى ومواقف!
ولكن بين كلتا الضفتين نجد للأسف إحجاما من قبل العديد من النخب والمثقفين المصريين والعرب عن إعطاء مثل هذه الثورة كثيرا من قسطاسها من العدل والإنصاف/ وأن تتم إعادة قراءتها نقديا واستحضارها نموذجا وحالة، برزانة موضوعية وعلمية صرفة تفرق بين نقاط الإنجاز ونقاط الخلل وتقيم فرقا بين الخطأ والخطيئة السياسية.
ففي حين يسود طرح ليبرالي مؤدلج يرى في الثورة أشبه ما تكون بالانقلاب ضد الديمقراطية وضد الفرد العربي على حساب الجماعة والحزب الأوحد، فإن مثل هذا الطرح يغض الطرف عن جهود الثورة في محاربة الظلم الإقطاعي والتمييز الطبقي الفاحش الذي أتى على قيمة الإنسان المصري في عهد تلك الديمقراطية، كما أن الأحزاب والجماعات الإسلامية وعلى رأسها الإخوان المسلمين لا تشمُّ من رائحة هذه الثورة إلا إعدام سيد قطب وغيره من أبناء تنظيم «الإخوان المسلمين»، والتنكيل الوحشي بأفراد ورموز الجماعة أو بالأحرى هي خيانة لعهد عبدالناصر مع الإخوان المسلمين الذي ناصروا وبايعوا ثورته، ولكن هذا الطرح الإخواني وعلى رغم أحقيته الإنسانية المشروعة في عدد من الجوانب فإنه يتجاهل دور الثورة في مختلف مشروعات التنمية وفي توحيد المجتمع المصري عروبيا ووطنيا، وفي جهود التقريب بين المذاهب الإسلامية كما ساد أزهريا في عهد الشيخ محمود شلتوت (رحمه الله) وبالتالي لم تتخلص الثورة من خطاطيف وكلاليب الشحن الأيديولوجي أكان إسلامويا أم ليبراليا أم غيره.
وعلى الخط ذاته تكمن أزمة العديد من المثقفين والنخب القومية في تعاملهم الجنائزي مع ثورة يوليو هي في أنهم وكأنما لم يبلغوا بعد في تعاملهم ذاك سن الرشد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فأضحت ثورة يوليو والقائد جمال عبدالناصر كما لو أنها بالنسبة لهم وثنا أو صنما يجعلونه من تمر وجوز ويصبوا عليه شعرا دامعا وفكرا لامعا فتارة يمجدونه وينصبونه وليا خلاصيا وتارة هم يأكلونه جوعا وقهرا في زمن الردة الكبرى.
ولا أدري متى ستتخلص هذه النخبة أو قل النكبة الثقافية والسياسية من توثين ثورة يوليو، وتبدأ في التعامل مع هذه الثورة الإنسانية بامتياز تعاملا شرعيا فيما يخص ذكر وسيرة الموتى حينما تكتفي فقط بذكر المحاسن دون غيرها فيما يأتي على حساب البعد العالمي والإنساني للثورة ضمن قلب التجارب العالمية المعاصرة، ويكون حاجزا غير صحي للحيلولة دون نقد نموذجها ومساءلته موضوعيا وبتجرد مع الأخذ في الاعتبار عوامل السياق الإقليمي والدولي والخصوصية الظرفية في تلك الفترة!
ولعل المصيبة الكبرى أن هنالك للأسف من التيارات والجماعات القومية التي ظلت ومازالت ترى في الحلقات الجنائزية لتأبين الثورة جوهرة عملها ونشاطها السياسي محليا وإقليميا مثلما ابتلينا بجماعات أخرى كأنما ترى في تعليق لافتة بأحد الشوارع إطارا استراتيجيا للمرحلة، وتعويذة سياسية شعاراتية لحماية هوية البلد من الزوال، وهنالك جماعات غاصت حديثا في مستنقع الشأن السياسي المحلي حتى الابتذال وحتى ساخت عيناها وأذناها وبقي أنفها عليا من دون أن ينال ويلامس شيئا من غنائم المجد الطائفي والتحاصص السياسي، فكان نصيب الثورة منها جلسة وكلاما إنشائيا لا يسمن ولا يغني من جوع!
ألم يأت الوقت المناسب الذي يعلن فيه عن تحرير الثورة نقديا، وأن تكسر تلك الأقفال الصدئة عن الفكر والوعي والرؤية القومية، وأن نحتفل فيه جماعات وأحزاب ببلوغ سن الرشد السياسي والاجتماعي والاستراتيجي والتحديات المصيرية تزداد جسامة يوما بعد يوم؟!
إننا لا ندعو هنا إلى ندوة وبيان آخر أو إصدار كتاب بل نطمح إلى تأسيس منهاج نقدي جديد يعيد الحيوية لهذه الثورة، وننشد منهاجا يأخذ في اعتباره تحذيرات الأطباء بأن طهو اللحوم الحمراء بدرجة حرارة عليا يؤدي للإصابة بسرطان القولون والجهاز الهضمي، وبالمثل فإن الطهو الأيديولوجي والحزبي العالي الحرارة للحم الثورة الأحمر ومشتقاته كان ولايزل أحد المسببات الرئيسية لسرطان العمل القومي والعمل الوطني في وقتنا الحالي!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2148 - الأربعاء 23 يوليو 2008م الموافق 19 رجب 1429هـ
