العدد 2168 - الثلثاء 12 أغسطس 2008م الموافق 09 شعبان 1429هـ

«الأسر المنتجة»... ثورة «بيضاء» ضد «تثوير» الأسعار

السنابس - محمد عبدالله محمد 

12 أغسطس 2008

في غمرة الفورة الصناعية الممتدة، وتطور حياة الإنسان وجموحه نحو العيش بمحاذاة (أو حتى في أتون) عصر السرعة ضاعت الكثير من السلوكيات والتوجهات الفكرية وحتى النفسية، لتتحول إلى صيغ جديدة في كيفية النظر إلى طريقة إدامة الحياة بأشكال مثيرة.

الأعمال والصناعات التي كانت في يوم من الأيام عصب الحياة بالنسبة لمجاميع غفيرة من الناس (بل ولشعوب كاملة) أصبحت اليوم لا تتعدى كونها مجموعة من الحرف التي تتندّر بها الدول في المناسبات الوطنية، حيث يتم تظهيرها لإبراز جانب من تراث البلد وتاريخه، فيتم «تصنيمها» في المتحف الوطني لهذه الدولة أو تلك أو في الصور التي تصدرها وزارة الإعلام لتُهدى إلى السّياح.

زيارة التاريخ بطريقة أخرى

بالتأكيد إن هناك من لا يستطيع ركوب عصر السرعة وموجباته فَرَكَن في حياته إلى منطقة خاملة ونمطيّة، والبعض الآخر لم يعد قادرا إلاّ على ممارسة المهن ذاتها التي اعتاد عليها، أو ورثها بالتذارر سواء المباشر منه أو المُركّب.

وبقيت جيوب الحرف القديمة (أو لِنَقُل الحرف اليدوية) تمخر في عالم الصناعة بإمكاناتها المحدودة غير عابئة بمن يبخسها الحق في أن تكون مع تلك الحرف والصناعات الكبيرة التي تعاظمت بفعل الزمن وبفعل الظروف والإمكانات الخرافية والفلكية.

بل إن تلك الحرف التي تهجع في جوف الزمن استطاعت أن تفرض نفسها اليوم أمام تجارة متوحشة لا ترحم، مستعينة في ذلك بنواحٍ مادية، حيث تتميز عن غيرها بأنها سلع رخيصة الأثمان، مع قدرتها في الوقت نفسه على توفير جزء من العطاء المتفق على أنه يُوفّر كفاف العيش في أقل تقدير. كما أنها استطاعت أن تفرض نفسها عبر المنحى النفسي الذي عادة ما ترغب الشعوب المتكوّمة على بعضها والمتداخلة ثقافيا واجتماعيا في أن ترجع إلى أصولها أيام الأرياف أو على أقل تقدير لزمن التجاور وليس التقابل.

رائدات في مهنة مقدسة

لقد مثّلت الدعوة التي قامت بها جامعة البحرين لاستضافة مجموعة من ربات الأسر المنتجة فتحا تجاريا وربحيا لهذه الأسر، فوجود زهاء الثلاثة عشر ألف طالب وطالبة بشكل مستمر لمدة عشر ساعات يوميا ولمدة خمسة أيام أمر مهم لعملية التسويق.

خلال مروري على نماذج من ممتهنات تلك الحرف وجدت أن الريادة ليست بالضرورة محصورة في صناعات الفلك أو الطب أو العلوم الإنسانية، بل إنها قد تكون في أمور مسكوت عنها.

تقول إحدى السيدات المشاركات في أسبوع الأسر المنتجة الذي أقيم في جامعة البحرين إنها امتهنت العمل في مثل هذه الأنشطة منذ أكثر من اثني عشر عاما، وهي تفخر بهذه المهنة حين تجد منتجاتها شائعة في الكثير من مناطق البحرين.

وتضيف هذه السيدة عن سبب امتهانها لمثل هذه الحرفة القول إن الأسباب في ذلك متعددة، فهي لا تمتلك أية مؤهلات أكاديمية لكي تدخل في مفاضلة بين أرباب العمل وتحصل على وظيفة جيدة، لذا آثرت القيام بهذه المهنة التي تبدو أنها مستقرة فيها بشكل منتظم.

بطبيعة الحال إن الأسباب التي ذكرتها هذه السيدة ليست أسبابا نمطية، بل إن هناك العديد من النماذج التي يُمكن أن تعطي مؤشرات من نوع خاص فتُفضي إلى النتيجة ذاتها، وقد تكون بعض الأسباب متقاربة في أنويتها ولكنها قد تصل إلى منعطفات يمكن أن تتمايز فيها تلك الأسباب.

تقول إحدى الآنسات المشاركات إنها لجأت إلى هذه الوظيفة منذ أحد عشر عاما تقريبا، ومذ أن كانت طالبة في الثانوية العامة حيث كانت تعمل في مثل هذه المنتجات خلال العطل الصيفية وما بعد الدوام المدرسي.

وفي جانب آخر من الحديث كانت تشير هذه الآنسة إلى أنها تفضّل العمل في مثل هذه الحرف كبديل عن نظام البطالة القاتل، والعطلة المفتوحة عن العمل والجلوس في البيت، فهي غير مرتبطة بأسرة أو زوج وبالتالي إذ إن لديها متّسعا من الوقت يُحتّم عليها أن تدخل معه في سباق محموم.

تسهيلات وعقبات

في الوقت الذي أخذت فيه مثل هذه المنتجات تشق طريقها وسط السوق المزدحم، كان لزاما أن تحظى بدعم يقيها من الضرائب العامة المرهقة، وأيضا يمايزها عن غيرها من الصناعات وفي طريقة التعاطي مع مثل هذه المناشط، لذا دأبت البحرين ومنذ أن كانت الشئون الاجتماعية مندمجة مع وزارة العمل على تعزيز مثل هذه الأعمال والحرف مثل تدشين مشروع «مايكروستارت» الذي استفاد منه أكثر من اثني عشر ألف مواطن من الأسر المنتجة، وأيضا توقيع وزيرة التنمية الاجتماعية فاطمة البلوشي مع مؤسس بنك الفقراء في بنغلاديش محمد يونس الحائز جائزة نوبل للسلام مذكرة تفاهم مشتركة بين الجانبين لإنشاء بنك الأسرة البحريني برأس مال يبلغ مليون دينار، إلاّ أن كل ذلك لا يمنع من وجود بعض التذمر لدى بعض تلك الأسر التي تمتهن الحرف التقليدية.

تشير إحدى السيدات من المشتغلات في نظام الأسر المنتجة إلى أن علاقتهم مع وزارة التنمية شبه إدارية محضة، أو علاقة تنظيمية لا أكثر ولا أقل، رغم أن الوزارة قامت بإنشاء مجمع العاصمة القريب من ضاحية السيف.

وتضيف هذه السيدة الخمسينية ن الوزارة بصدد فرض إيجارات على المحلات والعربات الموجودة في مجمع العاصمة، حيث ستتراوح الإيجارات ما بين 35 و50 دينارا، بل إن بعض الإيجارات ستصل إلى 80 و180 دينارا حسب حجم المكان المخصص.

وتضيف أيضا أن مثل هذا الإجراء سيقوض من عملنا بشكل كبير، وخصوصا أن المبيعات لا تكفي إلاّ لشراء كميات أخرى من الحاجيات لإعادة تصنيعها، ولا يمكنها أن تكون وسيلة أصلية في إعانة أسرة مكونة من خمسة أفراد.

جامعة البحرين بابٌ آخر للرزق

تقول إحدى السيدات المشاركات إن الجامعة قامت بتوفير كل ما يلزم لكي نقوم بعرض بضائعنا ومقتنياتنا بأفضل الطرق عبر اختيار أفضل الأماكن، رغم أنه وفي البداية كان اختيار المكان غير مجدِ بالنسبة لنا، ولكنه وبعد قيام المشرفة على تسيير البرنامج بتول أسيري بنقلنا إلى مبنى كلية إدارة الأعمال أصبح بإمكاننا التعاطي ما بين العرض والطلب بشكل جيد جدا.

وتضيف هذه السيدة أن العديد من الطلاب والطالبات وحتى من طاقم التدريس كانوا يشترون أكثر من نوع في الزيارة نفسها، وأن بعضهم يتكرر على المحل أكثر من مرة في اليوم، ما جعل من سوقنا سوقا نشطة ومتحركة بشكل لافت.

سلعٌ مطلوبة

من يمر على العربات المتوقفة في باحة كلية إدارة الأعمال، يلحظ أن معرض الأسر المنتجة يتميز بتنوع أصنافه وتفاوتها من حيث الأسعار والجودة، وكأنك تسير في مجمّع تجاري مرموق وما به من معايير البيع والشراء.

وفي موقع قريب أشارت إحدى السيدات المشاركات بعربة مفعمة بالمنتجات اليدوية إلى أن لديها أكثر من 20 صنفا تتوزع ما بين البخور الشعبي والعطورات الممزوجة التي تقوم هي بخلطها وتعبئتها في البيت. وتضف أخرى أن لديها أكثر 25 صنفا تتنوع ما بين حلويات الأعراس والأفراح، وأيضا أشغال ليلة الزفاف وغيرها من السلع. في حين تقول ثالثة إن لديها 40 صنفا من ملابس الأطفال وبعض حلي الزينة.

قبل أن أغادر المكان قمت بشراء قنينة من العطر المحلي الذي يقوم على تركيبة خاصة تمتزج فيها عديد من أشكال العطور، ووجدت أن جودته لا تختلف كثيرا عن العديد من العطور «الفارهة» وفلكية السعر، اللهم إلاّ في الشكل والتقديم الإكسسواراتي.

فعلا عندما مررت أمام تلك المعروضات وجدت نفسي أسير وسط تجارة بريئة، تجانب ثقافة تثوير الأسعار التي باتت تجتاح الأسواق، كما أنها تحاكي ماضيا بدأت تلابيبه تعلق بذاكرتنا المبتورة.

العدد 2168 - الثلثاء 12 أغسطس 2008م الموافق 09 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً