العدد 2169 - الأربعاء 13 أغسطس 2008م الموافق 10 شعبان 1429هـ

درويش وترتيب نثر الحياة

مع كل ديوان يصدره محمود درويش، تذهب في تخيّل ما لم يقله!. ما الذي يمكن لدرويش أن يقتنصه بعد أكثر من (20) قنصا ممتعا ومذهلا؟ طاف وطوّع خلالها اللغة في أبهى صورها واستعاراتها وبشحنات متتالية من المدهش والمغاير فيها. كأنه مشروع شاعر يدفعك للعزوف عن قراءة سواه. ظل وما يزال طازجا، سارحا وهائما في « ملكوت « موهبته التي تستعصي على الشبه أو القرين. كأنه قدّر للعربية وللشعر العربي أن يظلا في «مأمن وعافية» وبارتباط وثيق مع مأمن وعافية درويش.

تطور تجربة درويش في اتجاهها «العمودي» لا « الأفقي» يثير واحدة من الظواهر النادرة في مشروعنا الإبداعي العربي، والذي كثيرا ما يشهد حالا من الإرتداد والنكوص والتراجع في كثير من مفاصل التجربة، فيما يبقى المشروع « الدرويشي» بمنأى عن ذلك الإرتداد والنكوص والتراجع، بل على العكس من ذلك، هو يعمد مع كل تجربة جديدة الى اجتراح ما لم تستطع القيام به كثير من المشروعات الإبداعية الشعرية العربية طوال أكثر من ثلاثة عقود أو تزيد.

قرأناه في « حالة حصار « والذي صدر في طبعتين العام 2002 ، وفي « جدارية « التي صدرت العام 2000 ، وفي « سرير الغريبة» في العام 1995، و « لماذا تركتَ الحصان وحيدا»، في العام ذاته، و « أحد عشر كوكبا» و « أرى ما أريد»، وغيرها من المجموعات، لنصل الى أن « منجم» المفردة والصورة لدى درويش يظل مكتظا بالمتنوع من النفائس، وكأنه عبر توغله في « متاهة» ذلك المنجم ، يظل واثقا انه سيخرج محمّلا بالمشع والباهر من تلك النفائس، ودونما عناء طالما انه ولد ليؤكد معناه وحضوره في هذا العالم من خلال قدَره ورحيله واستقراره المؤقت، بكل ما يحمله ذلك القدر من شاعرية لا تضاهى في تاريخنا الشعري المعاصر.

في مجموعته الجديدة « لا تعتذر عمّا فعلت « والتي حملت مهر العام 2004 عن «رياض الريّس للكتب والنشر»، يتحقق كل ما أشرنا اليه بداية هذه الكتابة. المجموعة تحوي 47 نصا تشكل فيما بينها وحدة على مستويين: مستوى الإيقاع، ومستوى الموضوعة «الموضوعة التأملية الراصدة والتي تبدو متفرجة في بعض مفاصلها، فيما هي في الصميم من المشاهد والصور والحالات والإيماءات والإغتراب والوجود وحتى على مستوى العلاقة في توظيفات الأمكنة والوجوه والأشياء. فيما خمسة نصوص تبتعد قليلا عن مستوى الإيقاع، لكنها تظل على ارتباط وثيق مع الموضوعة.

ثمة كونية واضحة في تناول درويش لنماذج تكتظ بها أزقة وشوارع العالم، كونية في قدرته على النأي بنفسه في اللحظة الشعرية عن كونه « شاعر البندقية والمقاومة الفلسطينية»، ذلك التصنيف الذي ظل لصيقا به لسنوات، ولم يتردد لحظة في الإعراب عن استيائه وإحباطه من هكذا تصنيف أطلقه عليه عدد من الكتّاب والنقاد العرب، ولعل مثل ذلك التصنيف مبعثه طبيعة السمة والمشروع الشعري الذي اشتغل عليه درويش في مجموعاته الشعرية الأولى، الا انه وانْ ظل وطنه المباشر حاضرا في مجموعاته الأخيرة بدءا بـ «ورد اقل» مرورا بـ «مأساة النرجس، ملهاة الفضة» وليس انتهاء بـ «أحد عشر كوكبا» ومجموعته التي بين أيدينا. أقول ظل كونيا في تعاطيه مع حالاته والتقاطاته الشعرية التي اشتغل عليها.

في نص «سيجئ يوم آخر» نقرأ:

« سوف يجئ يوم آخر، يوم نسائي

غنائي الإشارة لازوردي التحية والعبارة

كل شئ أنثوي خارج الماضي

يسيل الماء من ضرع الحجارة

لا غبار، ولا جفاف، ولا خسارة

والحمام ينام بعد الظهر في دبابة

مهجورة إن لم يجد عشا صغيرا

في سرير العاشقين»

هذه القدرة السحرية على كثافة وتوالي الصور والمشاهد السريعة، فيما هي « متأنية» لحظة استقبالها في المخيلة، تنم دونما شك عن براعة في تثبيت الحضور أو « تأبيده» من خلال المهمل والمعاين وذلك العصي على الإثنين معا.

وفي المقطع ذاته، ثمة مزاوجة حميمة بين « يوم نسائي» و«الغناء» على اعتبار ان المرأة غناء الحضور الذي لا يعادله أي غناء في الدنيا، الا ان الملفت في مقاطع النص أن «كل شئ أنثوي خارج الماضي» وهو موقف يكشف عن حس صعب وحاضر في التعاطي مع المرأة على اعتبار انها داخلة ومتورطة في هيئته وشكله وملامحه.

لا يعمد درويش هنا الى مفاجئتنا فيما لو كنا على تواصل عميق مع مشروعه الشعري حين نقرأ:

«والحمام ينام بعد الظهر في دبابة مهجورة» ، ففي التقاطه ورصده للزمن وتوظيفه في سياق كائن حميم ورمز أول للحظات مفتقدة «السلام» في عالم يقوم على شريعة «الخراب»، كل ذلك يكشف عن إمكانات وبراعة فنية في اشتغالها على النقيض في صورته المقنعة.

ونقرأ في النص الذي عنونت به المجموعة» لا تعتذر عما فعلت»:

«والتفتوا إلى أمي لتشهد

انني هو... فاستعدّتْ للغناء

على طريقتها: أنا الأم التي ولدته،

لكن الرياح هي التي ربّته.

قلت لآخري: لا تعتذر الا لأمك»!.

وهنا لا بد أن نشير الا ان درويش هو شاعر «الأم» بامتياز، من خلال توظيفات «مُرّة» و»رحبة» وأحيانا تبعث على الرحيل أو التسلل دونما اشارة أو استئذان. وحين نقول انه شاعر الأم بامتياز انما نؤكد شموليته وكونيته من خلال شمولية وكونية الأم في الحراك الوجودي العام.

وحين تشهد الأم انه هو، انما يؤكد حالا من فطرة المعرفة وحالا من فطرة النبوءة فيها. والأم لدى درويش رهان دائم على المضي نحو الغامض والفاضح معا. وفي نص «لم أعتذر للبئر» نقرأ:

«صاح لي صوت عميق:

ليس هذا القبر قبرك،فاعتذرت

قرأت آيات من الذكر الحكيم

وقلت للمجهول في البئر: السلام عليك يوم

قتلتَ في ارض السلام، ويم تصعد

من ظلام البئر حيا».

ثمة امتياز لدرويش انه الصانع والمرتب الجميل لنثر الحياة ... النثر الذي يجئ من قراءة عميقة لهذا الكائن بكل ما يحمله ويرتبط به من أشياء وحالات وتجليات.

العدد 2169 - الأربعاء 13 أغسطس 2008م الموافق 10 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً