ليس غريبا أن تثير أفلام المخرج خالد يوسف الثلاثة الأخيرة، أو ما يشاء أن يعتبرها هو ثلاثيته الأولى، سخط الكثير من المتفرجين ونقمتهم، على الأخص في الشارع المصري. لطالما فعل يوسف ذلك في أفلامه السابقة، وهي التي لم تكن كثيرة؛ إذ إن حصيلته كمخرج لا تتجاوز أصابع اليد. ويوسف يمتلك موهبة خارقة في عمل ذلك، هو قادر على إثارة سخط المتفرجين وتأجيج حنقهم عليه وعلى السينما التي أوصلت أفكاره إليهم، على الأقل بموضوعاته وثيماته التي يناقشها في أفلامه، أو بحوارات أبطاله التي لا تخلو من هجوم على القيم والأعراف وكل الأخلاقيات. لا تهم التسميات الآن، ولا تغير من الأمر شيئا إن كان ما يفعله يوسف يعد من باب طرق المسكوت عنه وتعرية الواقع أم من باب تجاوز كل الخطوط الحمر وسواها وكسر كل التابوهات، المهم أنه الوحيد بعد أستاذه القادر الذي يملك مثل تلك الجرأة.
لكن الغريب هو أن توصم أفلام خالد يوسف ويشار إليها في بعض المواقع الإلكترونية، ويكبيديا أشهرها، على أنها أفلام تناقش قضايا الفساد وواقع المهمشين والفقر في مصر. بالطبع ليس ذلك صحيحا ويوسف لم يناقش أي قضايا واقعية مسبقا. كل ما ناقشة في أفلامه السابقة لم يتعد قضايا الخيانة، الجنس المختلط، الحب خارج الزواج، مع إشارات «يعتد بها» لزنا المحارم. قضايا وثيمات أفلامه بشكل عام لا تهم الشارع المصري ولا العربي ولا أي شارع آخر في العالم، ربما!
الآن وهو يعود بأفلامه الثلاث يمكن القول إنه يعود بشكل مختلف، هناك فرق، ربما يكمن في أنه في هذه المرة عرف «من أين تؤكل الكتف». بالفعل طرحها ثلاثية تناقش الفساد، قضية جوهرية مفصلية بالغة الحساسية، على الأخص حين يتعلق الأمر بالفساد العربي. بدأها مع أستاذه ووالده الروحي المخرج الراحل يوسف شاهين، وهل أفضل من ذلك ترويج لأعماله، اسم شاهين كما يعلم القارئ يستقطب كل الأنظار، كل الأسماع، المحبة والكارهة و... المحايدة.
خالد يوسف، صنع ثلاثيته تلك، الواحدة تلو الأخرى، لا يكاد ينتهي من مشاهد الأولى، حتى يبدأ في الثانية، وفي الوقت الذي ينشغل فيه بمونتاج الأولى يشرع في تصوير الثانية، وهكذا. أرادها بالفعل ثلاثية، كما الثلاثيات العالمية، تقدم في وقت متقارب، وإن كان قد فعلها في زمن قياسي، مقارنة بتاريخه كمخرج وبالقضية التي يناقشها وبحال السينما المصرية التي لم تكن قادرة على فعل ذلك حتى وهي في أيام مجدها الزائل.
«هي فوضى» كانت أول «أطروحاته»، بدأ فيها مخرجا مساعدا لأستاذه الراحل، يقال إن الأستاذ لم يرغب في وضع اسمه وأنه ساعد ابنه الروحي لكن الأخير، وفاء وتقديرا منه لأستاذه أبى إلا أن ينسب للراحل فضل إخراج العمل. الفيلم على أية حال، حتى وإن لم يرد اسم يوسف شاهين فيه، يحمل الكثير من روح شاهين، كل تقنيات الإخراج شاهينية، الرؤى شاهينية، اللمسات والإضافات التي يبدو بعضها جميلا يضيء العمل بينما يأتي بعضها الآخر متكلفا عسر الهضم، كل ذلك وسمات شاهينية أخرى تبدو واضحة في الفيلم. الأهم من ذلك والأوضح من كل اللمسات هو أن الفيلم يبدو كنسخة حديثة من أعظم أعمال شاهين «باب الحديد» وإن بدت نسخة أقل جودة بكثير. في «هي فوضى» ستجد قناوي في ثوب حاتم وهنومة في ثوب نور وستتذكر مشاهد كثيرة من الفيلم الأول، تبدو هنا بالألوان وبوجوه مختلفة وديكورات أكثر عصرية، لكنها جميعا تأخذك إلى «باب الحديد».
هل نجح خالد يوسف إذا في الجزء الأول من ثلاثيته؟ لا يهم، المهم أنه قدم فيلما مختلفا عن سابق أفلامه، على الأقل أكثر رزانة وجدية في أفكاره وثيماته.
ثاني تلك الأفلام كان «حين ميسرة» قدمه يوسف من دون مساعدة أستاذه أو أي أحد آخر، هذه المرة وضعه بمعية كاتب مختص هو ناصر عبدالرحمن وهو ذاته الذي قام بكتابة سيناريو «هي فوضى». هذه المرة استطاع فعلا أن يلامس قلوب متفرجيه، ربما أثار سخطهم ونقمة بعضهم، وخصوصا أولئك الذين أنكروا عليه تعرضه لبعض القضايا الأخلاقية التي يشاءون السكوت عنها. لم يبد الفيلم نسخة من أي عمل شاهيني آخر، ناقش بالفعل قضية الفقر في المجتمع المصري، بدا فيه يوسف مطلعا، ربما، على أرقام الفقر في بلاده التي نشرتها الأمم المتحدة حينها، وهي أرقام أثارت الفزع وسرعان ما عاد الإعلام الحكومي المصري ليغيرها ويخفف من وطأتها. يوسف لم يشأ في فيلمه هذا أن يجامل أي مسئول، لامس جروح مجتمعه بحدة وجرأة غير معهودة في السينما المصرية، ومن داخل الأحياء العشوائية تحدث بكل صراحة عما يحدث في مصر!
نعم كان جريئا في فيلمه، ومباغتا، وصريحا، ربما لحد الوقاحة، ونعم اختتم فيلمه، كما يفعل دائما، على طريقة الأفلام الهندية. المبالغة لدى يوسف واجبة، لا مفر منها، ولا يمكن لأي فيلم سينمائي أن يخلو منها.
«حين ميسرة» بدا صريحا حد الألم، جارحا حد البكاء، ولا يهم ما قيل ضده، أو ما تعرض له مخرجه من انتقادات حادة وهجوم شرس بسببه، كل ما ذكره صحيح، الفقر والفساد والفوضى واقع لا يمكن الفرار وآفات تعيث في جسد المجتمع المصري وسواه من المجتمعات العربية. الصحف المصرية، الإلكترونية، على الأقل، تتحدث عن فواجع في هذا المجتمع سببها الآفات الثلاث، تتحدث عن أزمة للرغيف تروح من أجلها الأرواح، وعن أزمات أخرى ينتفع منها الكبار ويدفع ثمنها شعب مدقع يهزمه جوع وحرمان وفقر مدقع لا وجود فيه لسلة الأمم المتحدة الغذائية ولا لدخل يومي لا يقل عن دولار واحد للفرد المصري.
ثالث الأفلام هو «الريس عمر حرب» وهنا يأبى يوسف إلا أن يعود لما يبدو أنه يستهويه من ثيمات. فيلمه الأخير هذا يشبه أفلاما سابقة له مثل «ويجا»، «خيانة مشروعة» و «عن العشق والهوى»، التي تدور في عوالم بعيدة عن هموم الشارع، لا تلامس وجدان المتفرج. في هذا الفيلم يلج يوسف إلى عالم الفساد من بوابة أخرى، بعيدة تماما عن الحي الشعبي وعن الأحياء الشعبية. الفساد هذه المرة هو بين رواد كازينو الريس عمر حرب وهؤلاء جميعهم من طبقة الأثرياء ورجال الأعمال، ناهيك عن الأمراء والمشايخ العرب.
لا تهم عملية الترميز ولا الإسقاطات في الفيلم، كثير من المتفرجين لا يرون تلك الإسقاطات ولا يريدون أن يروها، وخصوصا إن جاءت بسذاجة إسقاطات يوسف وسطحيتها. المتفرج في كثير من الأحيان يريد وجبة سريعة وساخنة لا يتعب فيها عقله. لذلك لم يلق الفيلم حضورا جيدا، وبطبيعة الحال لم يحصل على هجوم حاد، وليس ذلك بأمر مستغرب، فالفساد هنا مخملي، لا علاقة له بالواقع، فساد لا يود المتفرج العادي حتى الاطلاع عليه، إذ يصيبه بكثير من القرف والاستياء.
لم ينجح يوسف هذه المرة في التعرض لأزمة الفساد، لكنه على رغم ذلك قدم فلسفة مبتكرة للفساد وطرح منطقا غريبا تحدث به الريس عمر حرب طوال فيلمه، مفسرا عبره عالم الفساد والمفسدين، ملقيا بكثير من الإشارات الجريئة هنا وهناك!
إضافة إلى ثيمة الفساد، وتقنيات يوسف شاهين، ولقطات كثيرة تأخذك لأفلام عالمية كثيرة لا مجال لحصرها الآن، تشترك الأفلام الثلاثة في بعض وجوهها، خالد صالح وجه نحبه في كل الأفلام يتألق بشكل لافت للنظر في «الريس عمر حرب». هالة فاخر تبدو رائعة ومقنعة بشكل غير مسبوق في «حين ميسرة»، ويبدو بينها وبين منة شلبي كثير من التناغم و «الكيمياء» كأم وابنتها في «هي فوضى». عمرو عبدالجليل مدهش في «حين ميسرة» ولا بأس به في «هي فوضى». منة شلبي تقدم أداء جميلا في «هي فوضى»، وربما لو لم تختلف مع يوسف وتفسخ خطوبتهما، لوجدناها في الجزأين التاليين. سمية الخشاب اكتشفت بشكل «سيئ» وبدت كما لو أن مؤهلاتها لا تتجاوز «جسدها» في «حين ميسرة» وفي «الريس عمر حرب»، ربما يبدو ذلك مبررا في الأول لكنه يأتي بشكل فج ومبالغ فيه في الفيلم الأخير. عمرو سعد أو «عادل حشيشة» هو الجديد الواعد والإنجاز الحقيقي ليوسف، وهو أجمل اكتشاف قدمه للسينما العربية من خلال «حين ميسرة». وهو هنا يتبع خطى أستاذه في اكتشاف الوجوه الجديدة وإعطائها ثقة لا توصف، وهل أكبر من البطولة ثقة!
نجح يوسف أم لا ينجح، مرة أخرى ليس بالأمر المهم، المهم هو أنه قدم نفسه في أفلامه الثلاثة الأخيرة بشكل مختلف أكثر جدية، أشد واقعية، وأقرب لهموم شارعه.
العدد 2169 - الأربعاء 13 أغسطس 2008م الموافق 10 شعبان 1429هـ