وكأنما ودعنا رمضان بالأمس، وها هو الآن قريبٌ من طرق أبوابنا والحلول علينا ضيفا ننتظره بترقب وشغف. شهر رمضان الذي يحمل معه باقة كبيرة من الروحانيات والصلوات والعبادات تملأ الجو ونفوس الناس، لا يمكن تجاهل ما بات يحمله معه في السنوات الأخيرة من موسم زاخر بالأعمال التلفزيونية، فالمشاهد العربي يحضّر نفسه في كل عام لاستقبال هذا النوع من الترفيه على شاشة تلفازه، ولا يقبل بقلة الأعمال أو تكرارها.
وعلى رغم أن موضوع إثقال شهر العبادة بكم كبير من ساعات الفرجة والتسلية أمرٌ يكاد لا ينجو من الانتقادات كل عام، وخصوصا مع تفاقم هذه العادة وتحولها إلى طقس يعيشه الغالبية إن لم نقل الجميع... فإن جزءا من المقدم من ترفيه في هذه الفترة من السنة يحيي جزءا بسيطا من أصالة رمضان قديما، وإن كان بطريقة أكثر عصرية وتقدما.
ففي القديم كان الناس يجتمعون في أماكن معينة، كل بلد بحسب تقاليده، إما في بعض المقاهي الشعبية أو في أماكن تابعة للمسجد، أو في أماكن عامة محددة، ليستمعوا إلى قصص الأقدمين ويسردوا السِّير الشعبية القديمة. فـ «الحكواتي» في الحارات القديمة كان يسرد قصصا ويروي أخبارا للماضين... قصصا تملؤها النزعة الجامحة إلى الخيال والنيل من القيم البطولية والرجولية، والتأكيد على فرادة الشخصية. ولم يكن «الحكواتي» وحده، بل كان إلى جانبه آخرون يقومون بالدور نفسه، وعادة ما يكون كبار السن هم الذين يتصدرون المجالس ويديرون الأحاديث التذكارية والقصص الشخصية والنوادر والفكاهات.
الانتقال من منصة «الحكواتي» إلى منصة أخرى على رغم أنه أخذ وقتا طويلا فإنه أصبح حكما لا مفر منه، بل أنه أدمج في الكائن الجديد الذي بات يأخذ جميع المنصات التفاعلية بدءا من طريقة الاجتماع وصولا إلى المضمون. فالمهقى الشعبي الذي يفتتح أبوابه بعد الإفطار حتى ساعة متأخرة من الليل أصبح الآن شاشة تلفزيونية تقدم برامجها طوال الأربع والعشرين ساعة، أما الخطيب و «الحكواتي» فقد تغير شكله ومضمون قصصه إلى دراما تلفزيونية تستهلك الكثير من الأموال وتوظف لها طاقات كبيرة طوال السنة، بدءا من الإعداد واختيار الأفكار مرورا بالكتابة والاختيار ووصولا إلى الإخراج والإنتاج.
الكثير من النقاد يأخذون على الدراما التلفزيونية واقعها الجديد واحتلالها لمواقع التقاليد والأصالة القديمة التي كانت تعطي هذه المواسم طابعا خاصا، فيرون أن الاختلاف ما بين الماضي الذي ينتجه «الحكواتي» والواقع الذي تنتجه الدراما التلفزيونية هو اختلاف نابع من اختلاف الظروف والمعطيات الحديثة التي باتت أكبر من قدرة «الحكواتي» وأتباعه على مجاراته. ويضيف البعض أن القصة التاريخية التي ينتجها التلفزيون تمتلك من الدقة والثقة أكثر من قصة «الحكواتي». ومع كل هذا الاختلاف فإن عناصر التشابه لابد لها أن تظل ممتدة وفاعلة، وخصوصا فيما يتعلق بالقدرة على الجذب والتشويق والإبهار.
ومن أهم النجاحات التي حققها هذا النوع من الأعمال - عدا عن كونه أكثر التزاما ومراعاة للطقس العام لرمضان، من الأعمال والبرامج الأخرى التي قد يرد في حوادثها ما لا يتناسب بشكل كبير مع جو رمضان - أن المسلسلات التاريخية والسِّير الذاتية حققت ما فشلت في تحقيقه مناهج التاريخ التي أثقلت كواهل طلاب المدارس في مختلف الدول العربية بذكر رموز وشخصيات من التاريخ العربي والإسلامي، فكما يبدو أن الدراما العربية استطاعت أن تتفوق على كتب الطلاب وأن تكون أنجح منها في ترسيخ صورة عن التاريخ العربي والإسلامي في أذهان المتابعين على اختلاف أعمارهم، سواء أكانت هذه الصورة دقيقة أو محرفة.
العدد 2178 - الجمعة 22 أغسطس 2008م الموافق 19 شعبان 1429هـ