العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ

من يدلـّنا عبر المغامرة الإبداعية؟

ما الذي تستطيع أن تخبرنا به عن «الشيخ الأبيض»، الفيلم الأول الذي أخرجته بمفردك؟

في السنوات الأخيرة، وبينما أقوم بالتحضير لنتاجات مركّبة وصعبة، مثل: ساتيريكون، روما، كازانوفا... غالبا ما كنت أفكر بنوع من الحنين في فيلمي «الشيخ الأبيض». أود أن أنفذه من جديد، مع تجربة وتجرّد الحاضر، وبقصد التلاعب بالقصة والشخصيات.

سبق أن قلت مرارا بأن مهنة الإخراج كانت بعيدة عني وما ظننت يوما بأني سأصبح مخرجا. حتى بعد انجاز «أضواء حفل المنوعات» والذي حقق نجاحا بسيطا، كنت على يقين بأنني سأبقى في نطاق كتابة السيناريو لفترة لا أحد يعلم كم ستطول. وكتابة السيناريو كانت تناسبني أكثر لأنها لا تقتضي الإحساس بالمسؤولية الجماعية، ولا تفرض التزاما حقيقيا، وليس مفروضا عليها واجبات وتعهدات.

يومي الأول لتصوير «الشيخ الأبيض» كان كارثة حقيقية. لم أستطع أن أنتج كادرا واحدا. ليس هناك أكثر صعوبة أو ربما استحالة من أن تكون لديك كاميرا موضوعة على طوف في البحر الفسيح وأنت تحاول إبقاءها ثابتة لتؤطر سفينة مليئة بالممثلين. البحر هنا أشبه بجسم هائل يتحرك على نحو متواصل. هذا يستغرق ثانية واحدة فقط، إعادة فحص الكاميرا، كي لا تجد شيئا في الكادر غير الأفق أو الشمس التي تعمي البصر.

ذلك الصباح (أول صباح لي كمخرج) غادرت منزلي فجرا، بعد أن قبـّلت زوجتي جولييتا بحنوّ، وبعد أن تلقيت تمنيات طيبة - بالأحرى شكوكية- من مدبرة المنزل التي ظلت تكرر من المدخل قائلة: «لكنك ستموت من الحر مع هذه الملابس». إذ، رغم أننا كنا في الصيف، إلا أنني كنت ارتدي ما يرتديه عادة المخرجون: قميص، جزمة، كساء للساق من الجلد، نظارة شمسية، وصفـّارة معلقة حول عنقي مثل حكم مباراة في كرة قدم.

روما كانت مهجورة ذلك الفجر. كنت أفتش الشوارع، البيوت، الأشجار... باحثا عن علامة تبشّر بالخير. رأيت عامل الكنيسة (حافظ غرفة المقدسات) يفتح باب الكنيسة كما لو يفتحه لي. غادرت السيارة، مستسلما لحافز قديم، ودخلت الكنيسة. أردت أن أؤلف ضربا من الصلاة، أن أنظم ابتهالا يجعلني جديرا بالعون... لا أحد يعلم أبدا. الغريب أن الكنيسة كانت مضاءة رغم أننا كنا في ساعة الصباح الأولى. في المنتصف، كان هناك تابوت ومئات من الشموع. وقرب التابوت يجثو رجل أصلع ويبكي مغطيا وجهه بمنديله. هرعت خارجا، عائدا إلى سيارتي، محركا يدي في إشارة لدفع الأذى.

أردت أن أسألك من قبل، والآن أنت وفرت لي الفرصة من خلال ما ذكرته للتو عن الكنيسة... أين أنت في علاقتك بالدين؟

أود أن أجيبك بإيجاز وبدون الانتقال إلى الحكايات المعتادة التي تصورني كطفل يستحوذ عليه خوف وذعر في الدهاليز الباردة، في غرف هائلة بداخلها أسرّة نقالة، مضاءة فقط بقنديل أحمر صغير فوق فتحة مظلمة تبدو أشبه ببوابة الجحيم، وخلفها سلّم نزولا يفضي إلى دهاليز أخرى وصالونات مليئة فقط ببورتريهات ضخمة لأساقفة. وبعيدا في النهاية ثمة باب صغير ينفتح مباشرة على الكنيسة حيث مرّة في الأسبوع، قبل الفجر، كنا نحن الأطفال نأتي لنجثو في ظلمة تامة تقريبا، وكل منا يتعيّن عليه أن يعترف، بصوت مرتفع، بما اقترفه من آثام وخطايا.

لو باشرت الحديث في هذا الموضوع فسوف لن أنتهي لأني أستمتع كثيرا بتذكر ذلك الجو المهدد، المخيف، الرهيب حقا.

الكاثوليكية دين فاضل. بالنظر إليه وتأمله بتجرد، دون تحيّز، يمكننا القول بأن هذا الدين يغرس فيك الخوف من شيء ما... دائما يترصّد في كمين، يراقبك، يتجسس عليك. إذا كان صحيحا أن الدين، إلى حدٍ ما، يحرر الإنسان من الخوف، فإن جانبا آخر منه ينجح بفعالية في توليد الخوف. إن أساطير كل حضارة تؤكد الخوف من الآلهة، بالتالي -و من هذا المنظور- لابد أن الله مخيف، ويفرض الخوف لأنه محجوب ومجهول، إذ أن كل ما هو مجهول يسبب لك الخوف.

بما أن اللغز يحيط بالعالم والحياة، فأعتقد بأنني متدين بالفطرة. حتى لو لم أكن مفتونا، كطفل، بذلك الإحساس الخفي الذي يتخلل الوجود ويجعل كل شيء غامضا ولا سبيل إلى معرفته، فإن المهنة التي أمارسها يمكن أن تقودني على نحو طبيعي إلى الوجدان الديني.

إني أخلق أحلاما، بعينين مفتوحتين أنغمس في تخيّل شيء، ثم أوقـّع عقد العمل... وببضع قطع من الأخشاب، وفتاتين جميلتين، وأسطح عاكسة للضوء، أجعل ذلك الخيال يولد ويحيا. بعد ذلك يمكن لأي شخص أن يراه كما رأيته وأنا نائم، أو عندما كان ذهني خاليا. من يدلنا عبر المغامرة الإبداعية؟ كيف يمكن أن تحدث تلك المغامرة؟

فقط الإيمان بشيء، أو بأحد، متوارٍ بداخلنا، يمكن أن يلهم عملية الخلق الغامضة. شخص أو شيء لا نعرف عنه إلا القليل، جزء منا حكيم وحاذق، يعمل معنا. ونحن نساعد ذلك الجزء المجهول بالثقة به، بقبوله، بتركه يعمل لأجلنا. هذا الإحساس بالثقة، كما أظن، يمكن تحديده كإحساس ديني.

من جانب آخر، غطرسة المعرفة الواسعة المكتسبة غالبا من الكتب، الغرور، الهاجس لمعرفة المزيد... كل هذا مجرد اعتقاد زائف وخادع والذي غالبا ما يعوق الإيمان، يخنقه، يبدده، ودائما بنتائج أقل إرضاء.

كيف تتفق أو تنسجم هذه الأفكار مع الكنيسة الكاثوليكية؟

هذا السؤال يمكن إحالته إلى أي مسئول في الكنيسة. كيف بمقدوري الإجابة عن هذا السؤال؟ لقد سبق أن أخبرتك بأنني معجب بالدين الكاثوليكي، ونظرا لأنني مولود في إيطاليا، لم يكن لدي أي خيار غير أن أختار هذا الدين.

أحب طقوس الكنيسة، المشاهد التنويمية التي لا تتغيّر، الديكورات المترفة، الأناشيد الكئيبة، التعاليم بشأن العقيدة، انتخاب البابا الجديد، الآلية الفخمة المتصلة بالموت.

لدي شعور بالامتنان وعرفان بالجميل لكل التحريفات والالتباسات والمحرمات (التابوات) التي خلقت كتلة هائلة من الديالكتيك كأساس لثورات منشّطة للحياة. والجهد المبذول لتحرير المرء لنفسه من كل تلك الأشياء بإمكانه أيضا أن يعطي للحياة معنى.

لكن بصرف النظر عن تلك التقييمات الشخصية، فإن الكنيسة توفر نمطا من التفكير يحمينا من دوامة اللاوعي المفترسة. الفكر الكاثوليكي، كما الحال مع الفكر الإسلامي أو الهندوسي، هو صرح عقلي والذي، عن طريق تأسيس مجموعة قوانين أو مبادئ للسلوك، يحاول أن يمنحنا بوصلة لترشدنا عبر لغز الوجود: برنامج عمل للعقل الذي يستطيع أن ينقذنا من الرعب الوجودي الناشئ من فقدان المعنى.

ينبغي أيضا أن أضيف بأن الكنيسة الكاثوليكية، ربما بسبب ذكريات غابرة، لها جاذبية باهرة بالنسبة لي لأنها كانت الحافز الأعظم للفنانين... الراعية الصارمة، السخية، اليقظة لتحف فنية استثنائية. أعرف أن من السخف تخيّل المنتج دي لورنتيس في رداء كاردينال، لكنني أود أن أعتقد بأن منتجي الأفلام، مثل رؤساء تحرير الصحف، قد ورثوا -دون أن يستحقوا ذلك- نوعا من المنصب الرفيع، بما أن قدر الفنان هو أن يقتات بخبز الدوق الكبير (حاكم المقاطعة) والأمير والبابا. هناك صنف من الفنانين الذين يرغبون في الاستقرار ضمن التخوم التي رسّخها أولئك الذين في السلطة. بهذه الطريقة بوسع الفنان أن يتحرّر من أي إحساس بالذنب فيما يرسم، على سبيل المثال، صليبا.

إن عقد العمل الذي أوقـعه مع المنتج هو، بالنسبة لي، بديل عن الرداء الكهنوتي الأبيض الذي يرتديه البابا.

كيف تصلي؟

أرى أن الأسئلة، شيئا فشيئا، تتخذ صبغة دينية أكثر، وتبدو أشبه بتحقيقات محاكم التفتيش... هل بدأت محاكمتي؟ على العموم، سأحاول أن أجيب على سؤالك. أظن أن ذلك يحدث لنا جميعا، حتى عدة مرات في اليوم، أن نهمهم بشفاه متيبسة، راجين أن ما يقلقنا قد يصبح في النهاية خيرا لنا. ربما ذلك ليس صلاة. طريقتي في الصلاة هي أن أدرك أوضاعا معقـّدة على نحو خاص والتي منها لا أستطيع الإفلات. فجأة أكفّ عن إجهاد دماغي، أستسلم، وأتبرّأ منه متظاهرا بأن المسألة الآن تخص شخصا آخر.

vitelloni ... ما الذي يخطر ببالك عند ذكر فيلمك هذا؟ ما الذي يربطك به؟ أية صورة تربطك به؟

بحر شتاء رمادي وسماء غائمة مكفهرة. أخي يضع يده على قبعته ليمنع الريح من حملها بعيدا. لِفاع ليوبولدو وهو يتطاير في وجه مورالدو. صخب الأمواج المتكسّرة، صيحات طيور البحر. في النهاية حتى أنا مكثت معلـقا على ذلك الموقع الذي أصبح ضربا من الصورة الرمزية، من الملصق. ثم هناك وجه ماجيروني الذي أدى دور الممثل العجوز، الشاذ جنسيا، الذي يشتهي ليوبولدو المثقف.

ماجيروني، فيبو ماري، جوستافو جيورجي، مويسي: توقيعات مكتوبة بخط منمّق على صور فوتوغرافية ضخمة لممثلي الشخصيات بقسماتهم الجادة وشعورهم الطويلة، المتهدلة، التي تكاد تصل إلى أكتافهم. هذه الوجوه الرومانتيكية الملكية ظهرت فجأة ذات صباح شتوي، مباشرة قبل الكرنفال، على واجهات البيوت، على نوافذ مقهى الكوميرس، في الساحة العامة، في محطة القطار. ومن هناك كانت الوجوه تحدّق إلينا دون أن ترانا، مثل آلهة لا يمكن الوصول إليها، وبظل ابتسامة فقط يبشّروننا بأنهم سوف يعودون إلى الحياة إذا ذهبنا لرؤيتهم... كانوا هبة الله إلى قريتنا المسكينة، المنسيّة، الناعسة.

في صباي، كنت أحسب الممثلين مخلوقات خارقة، كائنات من جنس آخر. وفندق جولدن ليون، الذي أقاموا فيه لعدة ليال، اتّخذ أبعادا ميثولوجية وبدا أشبَه بجبل أولمبوس... موطن الآلهة. والبوّاب كان مثار حسد الجميع لأن بإمكانه أن يراهم عن قرب، وأن يتحدث إليهم، وأن يناولهم مفاتيحهم.

ما زلت حتى الآن أعجز عن تخيـّل الحياة التي يعيشها الممثل خلف المشاهد أو خلف الشاشة الفارغة. أين يذهب هؤلاء الممثلون حين تمحو الستارة الحمراء الكبيرة العجائب والمعجزات، وتضاء الأنوار في الصالة فاضحة بقسوة وجوهنا الاعتيادية؟

الفكرة الغامضة عن حياتهم الوهمية، الزائفة، لا تزال تلازمني اليوم في تعاملي مع الممثلين. وأنا لا أجد مانعا في ذلك، بل يبدو أن ذلك يتلاءم بشكل أفضل مع عملي، ويساعدني في فهمهم على نحو أفضل وعلى مستوى أكثر سريّة وغموضا.

لم أواجه قط مشاكل مع الممثلين. أحب عيوبهم، أخطاءهم، غرورهم، سماتهم العصابية، نفسياتهم الطفولية أحيانا والشيزوفرينية أحيانا. وأكون شاكرا جدا لما يفعلونه لأجلي. وما يذهلني حقا هو أن التخيلات التي لازمتني لعدة شهور تصبح -بفضل الممثلين- حيّة الآن، من لحم ودم، تتحدث، تتحرك، تدخّن، تفعل ما أطلب منها، تلقي الحوارات تماما كما تخيـّلتها عندما كنت أهيئ لهم الولادة شيئا فشيئا.

الممثلون الهزليون أعتبرهم هبة الله إلى البشرية. أن تمنح الآخرين المتعة، الإشراق، الدعابة، الضحك... يا لها من مهنة مدهشة! كم وددت لو أنني وُلدت وعندي الموهبة ذاتها، القدر والنصيب ذاته.

ستان لوريل، أوليفر هاردي، بستر كيتون، شابلن... هؤلاء كانوا الهبة الإلهية. أنا لا أتفق تماما مع المحاولات الرامية إلى عقد مقارنة بين هؤلاء المهرجين المدهشين وجريتا جاربو، جاري كوبر، كلارك جيبل... في الموهبة والميول. إن لقاء مع الأخوة ماركس يجعلني أبدو كالمصعوق بفعل البرق. أذكر في إحدى الحصص بالمدرسة، كنا نتناقش حول الخطّاب الذين اغتصبوا عرش يوليسيس بينما كان يهيم في البحار، وبطريقة ما، لا أعرف كيف، استطعت أن أقحم الأخوة ماركس... متحمّلا برزانة النظرة الحائرةـ والتي شابها مزيج من الغضب والإشمئزاز- والتي وجهها نحوي أستاذنا، رافعا نظارته حتى جبينه.

بل كنت معجبا بكوميديين من مرتبة أقل: الأخوة ريتز، أبوت وكوستيللو، بن توربن. حسبهم أن يكونوا هزليين ليحصلوا على نقاط عالية... بالنسبة لي على الأقل. في طفولتي كنت أظن أنني أشبه قليلا هارولد لويد. كنت أرتدي نظارة أبي، بعد أن أنزع العدسات، لكي أشبهه أكثر.

ماذا عن الممثلين الذين كنت تحب العمل معهم؟ هل كان هناك ممثل معين أردت أن تعمل معه لكن لم يتحقق ذلك لسبب ما؟

دائما أختار الممثل الذي يتلاءم وينسجم مع الشخصية، وإذا لم أجده فإنني أفضّل أن ألتقط شخصا يملك الوجه المناسب لتلك الشخصية، ولذلك النموذج، حتى لو اقتضى الأمر أن أبذل جهدا شاقا كي أجعله يصبح الشخصية على نحو طبيعي.

لقد عملت دائما مع الممثلين الذين أردتهم. لكن بأخذ سؤالك كدعوة للتخيّل، فأقول لك بأن الأسماء التي رغبت حقا في العمل معها: ماي ويست، مع تلك المشية المتغطرسة، وذلك الوجه الطفولي المدوّر والشره. الأخوة ماركس. الإيطالي روبرتو بنيني الذي هو شخصية مثيرة، ولد صغير وشرير من توسكان، ماكر وقليل الاحترام للآخرين، مهرج ضئيل ورابط الجأش، عاطفي على نحو رومانتيكي، عملي، بإمكانه أن يضطلع بأي دور ويجعله قابلا للتصديق من بلوتُس (كاتب مسرحي هزلي روماني) إلى حكايات هانز كريستيان أندرسون الخرافية. من بين كل الممثلين الهزليين من الجيل الجديد بنيني هو الأكثر أصالة وموهبة، والأقرب إلى أن يصبح شخصية يتعذر محوها.

فيتوريو دي سيكا، نعم... هو يخطر ببالي الآن في ما يتصل بفيلمي vitelloni. في البداية فكرت في مسألة ترشيحه للدور الذي مثله ماجيروني في الفيلم. بصراحة، كانت فكرة المنتج الذي نظر إليّ بعينين ضارعتين وقال: «فيلمنا يخلو من أي اسم شهير أو معروف. أنت تتجه نحو كارثة مالية كما حدث مع فيلمك (الشيخ الأبيض)... ممثلك ألبرتو سوردي يجعل الجمهور يهرب من الصالة. ليوبولدو ترستي الذي تجلبه معك ثانية لا يساوي شيئا. على الأقل إتفق معي في هذا... خذ دي سيكا لذلك الدور. إقنعه. إذهب إليه وتحدث معه. لا تدمرني، لا تسبب لي الإفلاس»... ثم غطى وجهه بيديه وانحنى فوق الطاولة وهو ينشج.

هكذا، وفي ليلة شتوية ذهبت لأتحدث مع دي سيكا الذي كان آنذاك يخرج فيلمه «محطة القطار». موعدي كان بعد منتصف الليل في قطار درجة أولى متوقف على سكة حديدية غير مستعملة وبعيدة عن الممشى. كان علي أن أسير بجهد عبر أحجار رطبة، الطريق كانت نديّة بفعل الضباب، وكنت خائفا من أي ضوء يبزغ في الظلمة خشية أن يكون ضوء قطار قادم. الرجل الضئيل الذي يقودني كان يتحدث دون انقطاع وبنبرة شخص يرشدني إلى قداسة البابا. عندما وصلنا، صعد إلى المقصورة لير إن كان دي سيكا يقظا أم نائما، وفي حالة نومه يتعيّن عليّ أن انتظر حتى يستيقظ. لحسن الحظ، دي سيكا كان يقظا هناك في عتمة مقصورة الدرجة الأولى، وقد أومأ إليّ كي أدخل.

لم أكن قد رأيته من قبل عن قرب. إنه يمتلك جاذبية خاصة يقدر أن يحافظ عليها ويتحكم بها، ويتحكم حتى في صوته الأشبه بصوت الفلوت. دي سيكا، مثل توتو المهرّج، استطاع أن يحافظ -حتى في الحياة الواقعية- تلك الخاصية الشاهقة التي لا يمكن بلوغها، والتي تجعل البعض يبدون مرئيين كما لو من خلال الأعماق السحرية للمرآة.

جذاب، ساحر، ولا يمكن بلوغه. هو الأكثر جدارة بأن يكون محبوبا... إنه يستخدم السحر كحرفة، كفلسفة تقول: كن محبوبا لتنال المغفرة كثيرا. دي سيكا كان جديرا بالحب حتى عندما كانوا يطلقون عليه تسميات وصفات مثل: شاعر الحرب، شاعر الخراب والشقاء. وحتى عندما يتخذ وضع السكون العميق ونبرة صوت مكتنزة بالمعرفة المريرة.

جالس أمامه في ظلمة المقصورة، في جو غير واقعي، وبصوت خافت وعاطفي شرعت في وصف الشخصية التي من المفترض أن يؤديها. شرحت له: هو ممثل مسرحي عظيم، ممثل كبير كان مشهورا في وقت مضى لكن حياته الآن ترغمه أن يقوم بتسويات ويقدم تنازلات موجعة، مشاركا مع فرقة صغيرة في دور غير رئيسي. ذات ليلة تصل الفرقة إلى بلدة نائية ومعزولة، حيث يأتي شاب مفعم بالأحلام والطموحات الأدبية، ويطلب من الممثل المشهور أن يصغي إلى قراءته لمسرحية من تأليفه، والممثل يوافق على ذلك. عندئذ ابتسم دي سيكا في تعاطف، مستحسنا ذلك، ثم همس بصوت خفيض معلقا على طموح الشباب.

متشجعا من موقفه، واصلت رواية القصة حتى المشهد الذي فيه الممثل العجوز الفاسق يبوح بنواياه للكاتب الشاب الساذج. دي سيكا، الذي ربما غلبه النعاس للحظة، استمر يبتسم بطيبة، لكنه فجأة بدأ يفهم الموقف، فتفرّس فيّ مندهشا وحائرا: «تعني أن لدى الرجل نوايا أخرى، غايات أخرى؟»... سألني في ارتباك، وبعد تردد قصير أضاف بصوت منخفض: «شاذ؟!»... هززت رأسي بالإيجاب وأنا مرتبك قليلا.

مرّت لحظات طويلة من الصمت. طلَّ دي سيكا من النافذة. صَمَت. ثم نظر إليّ بثبات وقال: «لكنه إنسان»... سارعت إلى الرد: «أكيد... إنسان». هزّ دي سيكا رأسه على نحو سريع، متفقا مع أفكاره، وهو يعضّ على شفته السفلى. بعد ذلك يؤكد بصوته الموسيقيّ الجميل: «لأن المثليين أيضا لديهم قيم إنسانية... أكثر مما نظن»... فقلت: «بالتأكيد... لاشك في ذلك».

شخص من العاملين في قسم الإنتاج دخل علينا في خنوع ليعلمنا بأن الإضاءة قد تم إعدادها وتركيبها، وأن الممثلين جاهزون. نهض دي سيكا، ضبط اللفاع حول عنقه، ثم مدّ نحوي يدا كبيرة، دافئة، ناعمة، جميلة وقال: «برافو، شخصية رائعة، أحبها... حدّد موعدا مع محاميّ. سوف نتحدث عن ذلك. لكن تذكّر... هو إنسان».

لأسباب لا أتذكرّها الآن، لم يكن ممكنا الاتفاق مع دي سيكا، وربما كان ذلك أفضل. فالشخصية التي كان من الممكن أن يخلقها دي سيكا ستكون مثيرة للتعاطف أكثر مما ينبغي، مثيرة للاهتمام أكثر مما ينبغي، مسلية أكثر مما ينبغي... وربما سوف يسيء الجمهور فهم الشخصية وربما يستهجن موقف الشاب الذاهل منه ورحيله نحو عتمة رصيف الميناء، بينما العجوز، بصوته العذب والجذاب، يحاول أن يتملق ويغري الشاب كي يتبعه إلى مكان منعزل وبعيد.

ما هي نصيحتك لمن يرغب في أن يكون ممثلا؟

حقيقة لا أعرف ماذا أقول له. عادة أنظر إليه في صمت، مرتبكا أكثر منه. أعتقد أنني آخر من يستطيع أن يقدم النصيحة والتوجيه، أو يقترح تقنيات وسلوكا وانضباطا. بوجه عام، أنا لا أتبع نظاما في عملي وبالتالي لا أقدر أن أزوّد الآخرين بنظام ما.

اختياري للممثلين هو استثنائي إلى حدٍ ما، فعلى الرغم من كل التقدير والتعاطف والالتزام الذي أشعره تجاه الممثلين، إلا أن اختياري لهم لتأدية شخصية ما في فيلمي ليس محكوما بالموهبة التي يمتلكها الممثل... بمعنى الكفاءة المهنية، كما أنني في اختيار الممثل الهاوي، أو اللاممثل، لا أعبأ كثيرا بافتقاره إلى التجربة. بالنسبة لي، الشخصية والممثل يجب أن يتطابقا ويتوافقا. إنني أبحث عن الوجوه التي تقول كل شيء عن نفسها منذ اللحظة الأولى من ظهورها على الشاشة. إني أميل إلى التوكيد على الشخصية، أن أكشفها بالماكياج، بالأزياء، بالطريقة التي يقوم بها القناع في جعل كل شيء واضحا وشفافا... في ما يتعلق بالسلوك، السيكولوجيا، القدر والمصير.

إن اختيار الممثل للشخصية المرسومة في ذهني يعتمد على الوجه الذي أراه أمامي، ما يفشيه لي، ما يتيحه لي من إمكانية أن أحدس، أن أدرك، أن أشعر بالكامن في الأسفل... في الباطن. أنا لا أحتاج إلى مفسر أو مترجم لكي يزيّن الشخصية مثل أي شخص آخر. أريد منه أن يعبّر عن أفضل ما يناسبه، أن يجسّد ما يناسبه بشكل أفضل. بتلك الطريقة، النتيجة تكون دائما إيجابية. لكل شخص الوجه الذي يخصه وحده، ولا يمكن أن يكون له وجه آخر. والوجوه هي على الدوام مناسبة. الحياة لا ترتكب أخطاء.

بالإضافة إلى وجوه الممثلين، كيف تتعامل مع المادة التي تستخدمها؟ أود أن تخبرني عن الجانب الفني من عملك... عن منهجك في ترجمة الخيال إلى صور... عن صنع الفيلم...

أنت تطلب مني أن أبوح بأسرار لا أملكها، أو لا أظن أنني أملكها كشكل مبرمج أو كجرعات طبية... كما يوحي سؤالك. ليس كل شيء قابلا للاستقطاب في صيغ كيميائية، في تركيبات رياضية من المقوّمات التي تضمن الوصفة الطبية الصحيحة، والجرعة الفعّالة. إنها مسألة يستحيل تفسيرها، بالنسبة لي على الأقل، بطريقة مفصلة وموثوق بها. لا يمكنني أن أحصي بدقة مطلقة، كما في دفتر الحسابات، كم أمتار من الحرير، من القماش والمسامير وقطع الأثاث والأزياء والوجوه المجمـّلة بالمساحيق، نحتاجها لترجمة صورة غامضة، آسرة، متقلبة، إلى مشهد سينمائي. وماذا عن الأشياء الأخرى التي تساهم في تكوين هذا المشهد: الحركات، الأبعاد، المنظورات، نبرات الصوت في لهجات معينة، الإيقاعات، الثيمات الموسيقية، البؤرة، الظلال، الضوء المعاكس، توزّع الضوء والظل... ومن يعرف كم من عناصر وتوترات أخرى، وشكوك محفـزّة، وأشياء مروّعة، وانفعالات؟

أنا واثق من أنني لا أستطيع أن أعزل كل ما يدخل في تركيب ذلك الإطار (الكادر) الفريد. لن أنجح في إعادة بناء ذلك العنصر الأساسي الغامض، الذي لا يمكن وصفه وبلوغه، والذي في النهاية يجمع كل شيء معا بصرف النظر عن منطقي، مشيئتي، موهبتي، إحساسي الفني. لن أنجح أبدا في تشريح تلك اللحظة من الانصهار الفاتن الذي يمنح وحدة ومصداقية بينما لا يزال يحتفظ بوهم، بإغواء، برمزية الصورة المتخيلة.

أي اهتمام توجهه في أفلامك إلى القيم المشهدية، وإلى الصوت؟

في البداية أكبح المظهر السردي للحوار، وفيما أتقدم في التصوير أحرز إيمانا أكبر بالصور ولا أعتمد كثيرا على الكلمات. أثناء إعادة التسجيل الصوتي أعود لإعطاء الحوار أهمية كبيرة. في هذا الشأن، أنا أختلف عن أنتونيوني الذي أحيانا، من أجل أن يعبّر عن كل شيء بواسطة الصورة، يركّز على نحو استحواذي، وبرتابة، على الأشياء. أشعر بالحاجة إلى إعطاء الصوت الخاصية التعبيرية نفسها التي تمتلكها الصورة، ولخلق نوع من تعددية الصورة والصوت. وبما أنهما متعارضان، فإنني أقاوم استخدام وجه وصوت الممثل ذاته. الشيء الهام هو أن يكون للشخصية صوت يجعلها معبّرة أكثر.

إعادة التسجيل، بالنسبة لي، أساسية ولا غنى عنها. هي نوع من الفعالية الموسيقية التي تعزّز وتقوّي ما تعنيه الشخصيات. اللقطات المباشرة لا تروق لي. الأصوات المركّبة في اللقطات المباشرة هي غير مجدية. في أفلامي، على سبيل المثال، الخطوات تكون غير مسموعة تقريبا. تلك أصوات يضيفها المتفرج بما يمتلكه من قدرة على التخيّـل، لكنها لا تحتاج إلى توكيد. إذا سمعها المتفرج فسوف تزعجه وتقلقه. لهذا السبب يكون التسجيل الصوتي عملا ينبغي انجازه، على نحو منفصل، مع الموسيقى

العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً