العدد 117 - الثلثاء 31 ديسمبر 2002م الموافق 26 شوال 1423هـ

هزيمة اليمين المتطرف... وإحباط الناخب الأوروبي

أوروبا في العام 2002

تلقيت ذات يوم في شهر ابريل /نيسان الماضي، بريدا الكترونيا مرعبا من مُدرِّسة في جنوب فرنسا، تخبرني أن استطلاعا سريا للرأي أجراه جهاز الأمن الفرنسي يشير إلى أن زعيم اليمين المتطرف جين - ماري لي بين ربما يكون الرئيس المقبل للجمهورية الفرنسية.

كان الاستطلاع خدعة وشائعة أطلقت عبر الانترنت مع كثير من الشائعات الخطيرة الأخرى التي عمت فرنسا في الاسبوعين بين الجولة الأولى والثانية للانتخابات الرئاسية بين 21 ابريل و5 مايو/أيار. وكان لي بين «متقدما في الانتخابات»، وهي قنبلة مذهلة فاسدة تم وضعها لتدمير الرئيس جاك شيراك، إذ صوّت كثير من رجال الأعمال لصالح لي بين، بينما كان هناك امتناع كبير عن التصويت وسط اليسار وخصوصا بين الطبقة العاملة ما أدى إلى كسب لي بين. وأقلقت مظاهرات الشباب ضد لي بين الطبقتين البرجوازية والوسطى اللتين صوتتا لليمين المتطرف.

وفي أيام قليلة، قبل التصويت في الجولة الثانية، كانت هناك نفحة من الثلاثينات في الهواء: شعور بالذعر أن أعداء الديمقراطية ومؤيدي العنصرية بل مضطهدي المجتمع الفرنسي ربما يتقدمون. طبعا في النهاية هزم لي بين هزيمة نكراء - 82 في المئة مقابل 18 في المئة - وهي أشد الهزائم التي يتعرض لها أي سياسي آخر في أكبر الديمقراطيات في العصر الحديث. ففي 5 مايو وقفت فرنسا إلى جانب الديمقراطية والتسامح واوروبا والاحساس العام.

وتبقى الحقيقة، في الاسبوعين الأولين من الجولة الأولى للانتخابات التي بدأت في 21 ابريل، تلقى المرشحان الأساسيان للائتلاف الحاكم، اليمين واليسار، جاك شيراك وليونيل جوسبان معا صوتا واحدا فقط من كل ثلاثة أصوات في الاقتراع، فيما لم يصوّت على الاطلاق أربعة فرنسيين من كل عشرة. وعندما سنحت للفرنسيين فرصة حقيقية، صوتوا ضد سياسات الاجماع ليمين ويسار الوسط المتعايشة والتي حكمت فرنسا خلال التسعة عشر عاما الماضية (منذ أن تخلى فرانسوا ميتران عن الاشتراكية).

في الواقع في الجولة الثانية، اجبر الفرنسيون على التحالف إلى جانب الشعار الأكثر اجماعا وفسادا لجميع السياسيين الفرنسيين وآخر المنحرفين لسنة انتخابات مضللة، جاك شيراك. وعند التحول شمالا إلى هولندا، نرى أنها كانت منذ وقت بعيد الأكثر توافقا وادارة في اوروبا. فهنا توجد الوجوه نفسها، أو السياسات نفسها التي تعود عادة إلى السلطة. البطالة منخفضة احصائيا والاقتصاد يفوق اقتصاد جيرانها وتعتبر أنظمة الصحة والرعاية الاجتماعية نموذجا تتبعه الدول الأخرى. انتر بيم فورتيون مثال للسياسي الهولندي المشهور، متحرر اجتماعيا ولكنه متحفظ اقتصاديا، معاد للمهاجرين ولكنه داعم ومؤيد للأوروبيين. على رغم اغتياله قبل أيام قليلة من انتخابات 15 مايو /أيار، انتهج حزبه المتداعي للسقوط السياسات الباردة الهولندية بعد الحرب، اذ فاز الحزب بـ 26 مقعدا، أكثر بقليل من حزب الحكومة: الديمقراطيين الاشتراكيين، الذي قسمته الانتخابات النيابية إلى نصفين. اشتكى حزب فورتيون ليس فقط من سيطرة المهاجرين المسلمين على الأعمال ولكنهم أيضا يهددون «التسامح» الهولندي التقليدي الاجتماعي والجنسي. ونتيجة لذلك كسبت قائمته أصواتا كثيرة من الطبقة الهولندية العاملة. ولكنه - وهذا اختلاف مهم عن فرنسا - كسب أيضا اصواتا كثيرة وسط رجال الأعمال والطبقة الهولندية الوسطى. ونال أنصار فورتيون مناصب وزارية في الحكومة الجديدة، باعتبارهم شركاء ائتلاف جدد مع الديمقراطيين المسيحيين. وبعد ثمانية أشهر انشق الحزب باعتباره قوة منظمة بينما تقلص دعمه. وحدث الأمر ذاته لحزب الحرية النمسوي المخادع تحت زعامة جورج هايدر الذي أرعب أوروبا عندما فاز بنسبة 26,9 في المئة في الانتخابات النمسوية قبل ثلاث سنوات. وبعد مشاركة غير فاعلة في الحكومة خلال هذه السنوات تراجعت أصوات حزب الحرية إلى نحو 10 في المئة في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وهناك كثير من الكلام عن «صعود» اليمين المتطرف ومبادئ حزب الشعب في اوروبا. ويشير نمط انتخابات السنة الجارية إلى عدم وجود منوال ثابت في نتائجها. فقد شهدت المانيا والسويد انتصارات ليسار الوسط اذ تتبع الدولتان بريطانيا في مقاومتهما للجناح اليميني الذي نشط ايضا في اسبانيا وايطاليا في السنوات الأخيرة. وعاد الديمقراطي الاجتماعي المستشار شرويدر إلى السلطة باعتباره نموذجا للحزب الشعبي الألماني الذي وقف بشدة ضد السياسة الأميركية وعارض الحرب لينقذ حملته الانتخابية المترنحة. وبعد ثلاثة أشهر، تدنى الاقتصاد الألماني، ويبدو أن شرويدر الذي يمثل اجماع الوسط، ذا الضرائب العالية، والذي خدم الألمان جيدا في فترة ما، مضطرب فيما يفعله اقتصاديا إذ تقلصت شعبيته.

وتعتبر انتخابات العام 2002 في اوروبا تحذيرا ليس إلاّ، ولكنها ايضا توضح قصور البرامج ونهوض اليمين المتطرف. وهي سنة تظهر أن مبادئ حزب الشعب تطبق بيسر في المعارضة وهي ليست كذلك في السلطة. كما تظهر ضعف صمود البرنامج السياسي الانتخابي. وقد أحبط الناخبون الأوروبيون بشدة جراء السياسات الائتلافية الجامدة ولانتقال اتخاذ القرار (وليس الديمقراطية) إلى بروكسل وفرانكفورت، ومازال الناخبون انفسهم جزءا من المشكلة. انهم لا يرغبون في مواجهة الخيارات الصعبة، بين اضعاف سياسة الدولة ووضع الرعاية من ناحية والفرص والحركة المتنامية الاقتصادية من ناحية أخرى.

في الواقع أثبتت حلول مبادئ حزب الشعب النصفية أنها ليست حلولا، وبدلا من تخفيف الاحباط - والارباك - لدى الناخبين الأوروبيين ربما تعمقه أكثر

العدد 117 - الثلثاء 31 ديسمبر 2002م الموافق 26 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً