العدد 2233 - الخميس 16 أكتوبر 2008م الموافق 15 شوال 1429هـ

كيف نفكر؟ (2-2)

ومثل ذلك ورد في خطبة مفصلة للإمام علي (ع): «إعلم إن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما، وسمّى تركهم التعمق فيما لا يكلفهم البحث عن كنهه رسوخا...».

وهذا يعني ضرورة التقيد بالحد الذي صرّح به الخالق جل وعلا، وعدم التجاوز منه إلى غيره، أو كما جاء في رواية عدم وصف الخالق إلا بما وصف نفسه هو لا ما وصفه غيره... فقد روى البحار رواية عن الإمام الرضا (ع) جاء فيها: «إن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وأنّى يوصف الخالق الذي تعجز الحواس أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحدّه، والأبصار عن الإحاطة به، جلّ عمّا يصفه الواصفون، وتعالى عمّا ينعته الناعتون».

فتارة يتمثل الضبط في المنع من التفكير في مفردات خاصة، وتارة يتمثل في الالتزام بمعالم المنهج الديني في التفكير.

3 - التفكير في خلفيات وتداعيات الحقائق والأحكام، لا في ذاتها، بدءا بالحقائق الكبرى كالتوحيد، وانتهاء بالأحكام الجزئية كالوجوبات والمحرمات...

فلا يمكن التفكير في ذات الله سبحانه ولا في ذات العلم الإلهي، وإنما يمكن التفكير في تداعياتها، كانعكاسات التوحيد في الحياة اليومية، وآثار العلم والقدرة الإلهيين في الكون، وانعكاسهما على الإنسان.

كما لا يمكن التفكير في ذات الأحكام، وإنما يمكن في خلفياتها - وهي الحِكَم وتداعياتها - كيفية تطبيقها والاستفادة منها.

بمعنى أنه بوسع الإنسان أن يتساءل قائلا: لماذا شُرِّعت الصلاة؟ بحيث يكون مقصوده الاستفهام عن فوائدها وكيفية استثمارها، لكنه لا يحق له التساؤل بهذه الكيفية: على أي أساس فرضت الصلاة علينا مع أنها لم تُفرض على مَن قبلنا - استنكارا - وما هي حقيقة الصلاة، بحيث يعطي لنفسه الحق في التصرف في هيئتها الخاصة، كيما يتعبد بالطريقة التي يستذوق...؟

لأن النوع الثاني من التفكر في ذات الأحكام والتشريعات، ولم يُسمح للإنسان التفكير في ذلك لأنه عبدٌ مأمور، ولكن له الحق في معرفة أهدافها وتطبيقاتها حتى يستفيد منها كما ينبغي.

وقد ورد عن الإمام الصادق (ع) ما له علاقة قريبة بهذا المعنى، حيث قال: (قال الله عزوجل: أنا الله لا إله إلا أنا، خالق الخير والشر فطوبى لمن أجريتُ على يديه الخير وويل لمن أجريت على يديه الشر، وويل لمن يقول: كيف ذاك وكيف هذا؟ قال يونس: يعني مَن ينكر هذا الأمر يتفقه فيه).

4 - التفكير في البناء لا في الهدم... بأن يعمل المفكر عقله في بناء ذاته وبناء مجتمعه، ولا يوجهه نحو الهدم في البعدين.

ويبدو لي أن الكثير من المعلومات القرآنية والروائية شاملة لهذا المعنى... كعمومات النهي عن الحسد وعن البغضاء، وعمومات الدعوة إلى الخير وكثير من ذلك...

فالاشتغال الذهني بالحسد وشبهه شأنه في المؤدى هدم الذات والمجتمع، ولهذا فإن عموماتها الزجرية توجه العقل إلى المحافظة على الموجود، بينما عمومات الدعوة إلى الخير تقود العقل للتفكير في البناء... وهذا هو المستفاد من ضرورة التطابق بين سلامة الروح وحركة العقل، فالغاية من ذلك هي ما نحن بصدده من الإيجابية في التفكير (البناء) وتجنب السلبية (الهدم).

ولكن من المؤسف جدا اننا نجد أحيانا عقولا فذّة تستهلك طاقتها في هدم الغير، تحت ضغط التحاسد والتباين في المواقف والأفكار، بدل أن تتوجه بجد لبناء كل ما حولها والمحافظة على الأعمال الإيجابية (الخير) القريبة منها.

وهذا هو خلاف المنتظر من العقل المفكر للإنسان المؤمن... يقول تعالى: «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير» (آل عمران: 104).

وقال سبحانه وتعالى فيما يشعر بذلك أيضا: «ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعدة قوة أنكاثا» (النحل: 92).

* رجل دين سعودي

العدد 2233 - الخميس 16 أكتوبر 2008م الموافق 15 شوال 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً