العدد 2233 - الخميس 16 أكتوبر 2008م الموافق 15 شوال 1429هـ

الحاكمية الإلهية... حكم الأمة والشعب (1)

هل تقف الحاكمية الإلهية ضد حاكمية الأمة والشعب؟ وهل إذا ما أريد إقامة حكم الشعب فإن شرط ذلك إلغاء الحاكمية الإلهية؟ هل هناك فعلا من تناقض؟ وهل ينطلق التصادم والتنافر من العناصر الرئيسية المكونة لكلٍ من الدعوتين, بحيث لا تنتصر واحدة على حساب أخرى, أو أن لكل من الدعوتين الموقع الطبيعي والمتوازن الذي تحتله, وإذا ماتم احترام ذلك فان التكامل والانسجام سيأخذان مجراهما لتزدهر الفكرتان والدعوتان, ويرفدان بعضهما بعضا؟

الحقيقة الأولى: الحقيقة الدينية

الحاكمية الإلهية: لا يختلف اثنان من المسلمين على أن الحاكمية الأولى والأخيرة تعود لله سبحانه وتعالى، لم يقل الشيعة ولا الأشاعرة ولا المعتزلة وغيرهم بغير هذه الحاكمية، لأن ذلك من جوهر الدين والاعتقاد والإيمان بعبودية الإنسان لخالقه. بل لا يمكن لمختلف الديانات أن تقول بخلاف هذه الحاكمية وإلا سقط المعنى الأول للدين والخالق والخلقية والنشأة والتوبة والعقاب والبعث والجنة والنار.

لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فطالما تتعرض هذه الحاكمية لأنواع مختلفة من التحريف والاستلاب، ولايمكننا هنا إلا أن نضع عنوانين كبيرين لأشكال الاستلاب نلخصهما كما يلي:

1 - استلاب الذات الإلهية:

أي عمليات التقمص والتجسيد:

شهد كل أشكال الإيمان وكل الديانات السماوية وغير السماوية شكلا من أشكال التجسيد وادعاء الحق الالهي، أما ابتداء بالنسبة للأديان غير السماوية، أو لاحقا بتحريف التعاليم السماوية. وهذا التحريف هو ليس بالأمر اليسير، وهو لايتعلق بصدق أو سوء النوايا فقط، بل هو بدوره من جوهر الابتلاءات والامتحانات التي تجد مصادرها في طبيعة النفس البشرية، كما جبل الله سبحانه وتعالى هذه النفس.

إن هناك سعيا فطريا للبحث عن خالق أو سيد هذا الكون هذا السعي الفطري قد يأخذ في أحد أشكاله السعي البدائي الذي لا يقبل إلا ببرهان يراه ويلمسه ويشخصه. والقرآن الكريم ينقل هذه الحالة الفطرية أو الجدلية في طبيعة الإنسان... «وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين. وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين، فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضّالين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين».

هذه التصورات تلخص أسئلة كثيرة ومحاججات طويلة في النفس الإنسانية تتمثل بمجموعها سعي الإنسان للبحث عن خالقه، فمنهم من يهتدي ومنهم من يستمر على ضلاله في مسيرة معقدة يمر عبرها بمخاضات عديدة وأسئلة كثيرة يكدح فيها الإنسان إلى ربه وهو ما قد تعبر عنه الآية الكريمة: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه».

فالإنسان في مسيرته المعقدة الطويلة حاول أن يجد خالقه فمنهم من وصل، ومنهم من اصطنع من آيات الله أو من هواة الهة. إنه يكون (آشور) كما عند الآشوريين، أو (مردوخ) كما عند البابليين، و (لايوس) كما عند اليونان وقد يكون (جوبيتر) كما عند الرومان، وقد يكون (اللات والعزى) كما عند العرب، و ( اهورامزدا) كما عند الفرس، وهو قد يكون النار أو الماء، أو الجبل أو النهر، وهو قد يكون فكرة أو فلسفة كما عند (بوذا) أو (كونفوشيوس) لدى الهنود والصينيين، أو قد يكون نظاما اجتماعيا أو فكرة شعبوية فتضفي الحلولية الربوبية على الشعب أو الحزب أو العلم أو النظام دون أن تعلم أنها تسقط، ولو إيجابيا، في شكل من أشكال التقمص والتجسيد الحسي أو الفكري والتي قد تتحول إلى أشكال سلبية تماما إذا ما استحلت المقدس الحقيقي ولم تسر في خطة الطولي وتؤمن بمرجعيته.

فكما أن النزوع إلى الخالق هو نزعة طبيعية للانتقال من محسوس الحواس الخمس،المحدود، المجزأ والمؤقت إلى المحسوس القلوب،الدائم، المطلق، الواحد الأحد. فإن النزعة التي تسير بالضد من ذلك هي أيضا نزعة طبيعية كما نرى ذلك في اليهود عندما يتركون كلام الله ليتعبدوا بكلامهم أو كما يصفهم الله سبحانه وتعالى: «مَثل الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفارا بئس مَثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لايهدي القوم الظالمين، قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياءُ لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين»، عند النصرانية عندما يتركون خالقهم الحقيقي ليتعبدوا بجسد الرسول والمخلوق: «يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا».

أو عند المسلمين عندما يتركون ما يأمر به الخالق ليتعبدوا بما يأمر به المخلوق... «ياأيها الذين آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا، إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا».

هذا السعي بقدر ما يعكس أهمية المحسوسات في حياة الإنسان، يعكس أيضا أهمية الغيبيات لديه، وإن بؤس الفكر الالحادي المادي كبؤس الفكر الخرافي الأسطوري كلاهما يغرقان في الغلو والتطرف. الفكر الخرافي أو الاسطوري يمدد الحقائق ويخترع التصورات ويعطيها أبعادا وهمية. هذه هي الخطوة الأولى، أما الخطوة الثانية وبعد أن تؤسس الخرافة مكانا في عقله وتصرفه فإنها ترتد على حياته الفعلية تنتقص منها وتجعل الإنسان عدو نفسه، تسجنه في الأوهام، يعتقد أنه يحتضن الحقيقة الشاملة والمطلقة، بينما الحقيقة هي أنه يعيش الجهل والمجهول. في حين يقتطع الفكر الإلحادي المادي الحقائق ويجتزئ المكونات ليصنع لنفسه فكرة ورؤية تقوم على المباشر والمحسوس فقط. هذه هي الخطوة الثانية، وبعد أن يؤسس المحسوس المحدود أوهاما وقاناعات ناقصة ووهمية لا يستطيع أن يرى غيرها، يبدأ بتأسيس حتمياته ويعلن عن قدرياته كيف سار التاريخ وكيف سيسير، راسما لنفسه أعلى درجاته القدرية والحتمية، معتقدا بها بشكل مطلق وشمولي.

2 - استلاب الموضوعات القدسية:

لا يتمثل الأمر فقط بتحرك العوامل الفطرية بشكلها الابتدائي فقط، أو بعمليات الانحراف لمن ارتد عن الله سبحانه وتعالى. فنزعة التجسيد والتقمص كانت أقوى من نزعة الإيمان لديه. بل يتعلق الأمر بتحرك العوامل الشيطانية وعوامل الفجور في النفس، فتتحرك نزعة الاستبداد الفعلي أو العقلي لتطلق ممارسات استبدادية جبروتية تنتهي عن طريق الأحكام وتحريفها وادعاء الهيمنة عليها إلى شكل من أشكال تنصيب الإنسان نفسه إلها معلنا أو غير معلن في الأرض، والادعاء بأنه يمتلك مفاتيح العلم الإلهي الذي لايقبل نقاشا أو انتقادا. فهو كسرى وفرعون وقيصر وأمثالهم، وهو السلطان الجائر والحاكم الظالم والمفتي أو الفقيه الكاذب، وهو حاكمنا الراهن ودولنا المستبدة التي تعصي الله سبحانه وتعالى في أعمالها وتصرفاتها، وتعتدي على حقوق الله والعباد فتعطل حلالا وتحلل حراما، كل ذلك باسم الدين والإسلام.

إنه أيضا استبداد النزعات الاجتماعية التي تطلق المفاهيم الشمولية طبقية أو حزبية أو تنظيمية أو علمية أو غير ذلك فتخرج الأشياء من حدودها لتعطيها الإطلاق، والتي تهدف الى أسر الإنسان وإيجاد مرجعية عقلية أو مفاهيمية أو تنظيمية فوق مرجعية الله وحاكميتها. فالألوهية قد تأخذ شكل النظام الاجتماعي فتجعلها تعسفا مقدسا مطلقا يتقدم على المقدس الحقيقي والوحيد.

الحاكمية الإلهية ثابتة لاتتغير «ما اختلف عليه من الدهر فيختلف عليه الحال، ولا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال».

تطل على المكان دون أن تتمحور فيه وتدور في الزمان دون أن تنغلق عليه، فيأخذ منها الزمان ما يناسب وقته، ويأخذ منها المكان ما يناسب ظرفه، فهي أعظم من كل الأزمنة والجغرافيات، تلهم الأحكام الجارية تراقبها وتدقق في مدى اقترابها أو ابتعادها عن بواطن الأحكام. الحاكمية الإلهية كالذات الإلهية قريبة من الإنسان من دون التصادق وبعيدة من دون افتراق.

* نائب رئيس جمهورية العراق

العدد 2233 - الخميس 16 أكتوبر 2008م الموافق 15 شوال 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً