العدد 185 - الأحد 09 مارس 2003م الموافق 05 محرم 1424هـ

الإعلام وأزمة الثقافة المجتمعية

ما مقومات ذاتيتنا الحضارية أو الثقافية؟ ماذا ضاع منا ولماذا؟ كيف نستطيع استعادة ما ضاع منا والحفاظ على ما بقى؟ أسئلة كثيرة تستوقفني للإجابة، لينضم إليها السؤال الأخطر: أي نوعية من المجتمعات سنصبح فيما بعد، وأية هوية تحملها الأجيال المقبلة؟

لست أبالغ في خطورة الموقف! فالواقع يحمل الأقسى. لنأخد ديوان أي شاعر من الشعراء المعاصرين، دعاة الشعر خصوصا، فستجد كلمات مثل «الغربة»، «الضياع»، «اللاجدوى»، «الاحباط» و«الهوية» نجدها تتكرر بشكل ملح، وهنا أقول اعتراضا ان ما يسمى بالشعر العربي الحديث - على رغم كل الحجج التي يمكن أن تقوم ضده - هو في واقع الأمر انعكاس صادق للبلبلة الفكرية والروحية التي بدأنا نحس بها. فالخروج عن الوزن والقافية هو في حد ذاته خروج عن المدارات التي ألفناها وكنا ندور فيها آمنين مطمئنين، اذا قضية الذاتية الثقافية أصبحت قضية مهمة وحقيقة بالنسبة إلينا أيضا. فالأمم لا تنتبه إلى ذاتيتها سواء كانت ثقافية أو غيرها إلا حين تحس بأنها بدأت تفقد هذه الذاتية، العالم لم يعد مألوفا ولا أليفا كما عهدناه، والقيم التي أعطتنا الاستقرار وسكينة النفس حتى في أحلك ظروف حياتنا فيما مضى فجأة أخدت تهتز تحت وطأة مؤثرات كثيرة، لذلك بدأنا نطرح على أنفسنا الأسئلة الجوهرية السابقة، طبعا يمكن الإجابة ببساطة عن هذه الأسئلة كلها!

نحن عرب في الأغلب الأعم ومسلمون في الأغلب الأعم، نعيش في رقعة معروفة من الكرة الأرضية منذ مئات السنين وعلاقتنا بالكون حددها لنا ديننا الحنيف، وعلاقتنا بالأمم الأخرى حددها لنا تاريخنا الناصع الذي لا يحتاج إلى دليل وبرهان، ولكن هذه الثوابت كلها لم تعد ثابتة كما نظن، ليس في جوهرها ولكن لأن الأفكار تباينت والسبل تفرعت واختلط الحابل بالنابل حقا وصدقا ويكفي أن نلتفت حولنا في أي مكان من العالم العربي لنرى مظاهر هذه البلبلة، لننظر إلى طعامنا وشرابنا وملبسنا، إلى شوارعنا ومدننا واعلامنا، سنجد أن الرموز التي تعبر عن ذاتها هي خليط من أشياء متنافرة، البرنامج التلفزيوني يبدأ بالقرآن الكريم وينتهي بفيلم اميركي، المجلة العربية تبدأ بالأخبار المحلية ثم العالمية ثم صفحات الدين وصفحات عن الأزياء، أصوات المؤذنين إلى جانب موسيقى الجاز!

وأنا لا أود أن أقول إن هذا خطأ أم صواب: خير أم شر، اذا كان هذا ما نريده حقا فليكن، ولكن يبدو لي أننا لسنا راضين عن هذا واننا نبحث عن شيء ما، ثوب آخر قديم، جديد يسمينا ويميزنا عن بقية الأمم. ما هذا الشيء وكيف نجده؟!

قبل الإجابة عن هذا السؤال لابد أن أوضح الآتي:

ماذا نقصد بدور وسائل الإعلام في التنمية الثقافية العربية؟

ان ما نقصده بصورة مباشرة وأساسية هو دراسة الدور الذي يمكن أن تؤديه وسائل الإعلام في تحويل المجتمعات العربية من واقع ثقافي متخلف إلى واقع ثقافي متقدم، وذلك في اطار طبيعة العصر، وما يحمله من ظواهر ثقافية عالمية.

تتسم العلاقة بين وسائل الإعلام والتنمية الثقافية بسمتين بارزتين، السمة الأولى هي الدور المحوري للاعلام في التنمية الشاملة والمتواصلة، والسمة الثانية هي ارتباط وسائل المعاصرة ارتباطا عضويا بمعظم أوعية الثقافة المعاصرة.

في السمة الأولى نجد أن تجارب التنمية في العالم الثالث خلال النصف الثاني من القرن العشرين أثبتت أن الخلاف النظري والأيدولوجي الذي كان موضع جدال بين الباحثين عن أثر الإعلام في المجتمع والدور الذي يمكن أن تؤديه وسائل الاعلام في تغيير المجتمعات، هذا الخلاف على: هل بناء الإنسان يبدأ بتغيير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع، ثم ينعكس ذلك على الوعي والإدراك؟ أم هل يبدأ بناء الإنسان بالتأثير في الوعي والعقل والضمير ثم ينعكس ذلك على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع؟ هذا الخلاف النظري والأيدولوجي تلاشى في الواقع العملي، لقد أثبتت تجارب التنمية الشاملة خلال النصف الثاني من القرن العشرين أن التأثير متبادل بين الجانبين المادي والمعنوي، وان بناء الإنسان يرتبط ارتباطا وثيقا ببناء التقدم ماديا ومعنويا، كما أثبتت تجارب التنمية أن دور الإعلام في التنمية الشاملة لا يقتصر على البناء المعنوي للانسان بل أن يسهم في البناء المادي، وأوضح دليل على ذلك استيعاب الإعلام لتكنولوجيا وسائله من أقمار صناعية والكترونية وغير ذلك.

ولا يقف الإعلام منتظرا حتى تبدأ خطط التنمية في التنفيذ، ان المجتمع في حركة مستمرة وكذلك الإعلام، وقبل ان تتحرك خطة التنمية من الإحصاءات والتنسيق إلى شكلها النهائي يكون الإعلام قد سبقها بجعل المجتمع يحس بضرورة وأهمية تحقيق التنمية والتقدم وزرع التطلعات بين أبناء المجتمع.

وفي السمة الثانية التي تبين الارتباط العضوي بين وسائل الإعلام المعاصرة ومعظم أوعية الثقافة المعاصرة، نستطيع أن نلمس بوضوح شديد هذا الارتباط العضوي بين الوسائل والأوعية مع الاختلاف والاستقلال بين فنون وأشكال كل من الإعلام والثقافة.

وفي المقابل ما الذي يمكن أن يفعله اعلام سيئ في مجتمع يسعى إلى التنمية؟!

يصبح الإعلام السقيم التافه سمّا يقتل تحفُّز الشعب ويقبر الإشراقة المضيئة في أذهن الأجيال، وتحضرني في هذا السياق كلمات كاتبي المفضل «يوسف ادريس»: «قد تسمع حوارا اذاعيا أو تشاهد على مضض تمثيلية هزلية في التلفزيون غبية وسطحية تخمد العقل ومواهبه، قد يحدث هذا وتسب وتلعن، وتغلق الجهاز منقذا نفسك من هذا الانحدار السمج، ولكنك في الوقت الذي تمنع عن نفسك هذا البلاء لا تعرف المأساة الحقيقية، ان هذا البلاء يتلقاه الآخرون ويطعم منه شعبك كله».

كيفية الحفاظ على الهوية

أولا: ان الحفاظ على الهوية ليس شعارا يرفع فيتحقق من تلقاء نفسه، وليس موضوعا ندرس ونتحاور فيه فقط، انما يجب أن ننتقل من حيز التمني إلى حيز التخطيط العلمي المدروس الذي يؤدي بدوره إلى عمل قومي مشترك يوفر لنا الزاد الإعلامي والثقافي والحضاري الذي يشكل فكر الإنسان العربي ووجدانه، ويحافظ على هويته، وانا لا أتحدث عن الأجيال العربية الحالية، فهي قد بلورت أو شكلت بالفعل هويتها وحددت بالفعل انتماءها بشكل أو بآخر، ولكني أتحدث عن أجيالنا الجديدة التي ستعيش هذا العصر المفتوح منذ نعومة أظفارها، والتي تملك حق الاختيار المطلق لما تسمع وتقرأ وتشاهد.

ثانيا: أن تعي هذه المنابع الإعلامية والثقافية العربية على الأرض وفي الفضاء أن وظيفتها الأساسية هي ربط الإنسان العربي بجذوره الأصلية المستمدة من قيمه الروحية وحضارته وتاريخه وثقافته والوعي العميق بقضاياه المعاشة وطموحاته وآماله القومية، وتشكيل درع الوعي الذاتي الذي يجعله قادرا على التعايش مع عصره.

ثالثا: انشاء قنوات ثقافية عربية متخصصة تجعل الثقافة بأنواعها كلها وأشكالها الفنية كلها المحور الأساسي لحركتها حتى تكون أشبه بالمنابر الثقافية العربية التي تنتمي إلى تراث عربي ثقافي واحد وتتوجه به من خلال الفضاء إلى جمهور عربي واحد على الساحة العربية.

رابعا: انشاء قنوات عربية فضائية باللغات الأجنبية المختلفة موجهة إلى الدول والشعوب التي يهمنا التواصل معها لتعميق الفهم المشترك بيننا وبين هذه الشعوب، ولاعطاء الصورة الصحيحة عن وطننا العربي وعن حضارتنا العربية الإسلامية، ولاعطاء الفرصة للتفاعل الخلاق بين ثقافتنا وثقافات الشعوب الأخرى .

خامسا: الاهتمام بشئون المبدعين الحاليين وحل مشكلاتهم وابتكار الوسائل التي تشجعهم على زيادة الإنتاج. هذا من ناحية ومن ناحية اخرى الاهتمام بالبحث عن المواهب الجديدة في شتى المجالات بحيث نتبناهم وندربهم اذا احتاجوا إلى تدريب، واضعين في الاعتبار أننا بحاجة إلى ضعف أو ثلاثة أضعاف المبدعين الحاليين في السنوات العشر المقبلة، وهذه مهمة قومية اخرى نرى انها تحتاج إلى تضافر جهودنا كافة في الأجهزة المعنية كافة لتوسيع قاعة المثقفين والمبدعين.

سادسا: التعاون الوثيق بين أجهزة الاعلام والثقافة والتعليم، واستحداث الآليات التي تكفل تنسيق التحرك فيما بينها تحقيقا للاستراتيجية العربية المشتركة.

سابعا: جذب اهتمام القطاع الخاص العربي للاسهام في الإنتاج الإعلامي والثقافي بحيث يتبنى من خلال مؤسسات انتاجية كبيرة انتاج أعمال درامية وثقافية تكفي احتياجاتنا جميعا وتدر ربحا من خلال قاعدة التسويق الواسعة في الوطن العربي.

مساعد بحث وتدريس في جامعة البحرين

العدد 185 - الأحد 09 مارس 2003م الموافق 05 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً