العدد 186 - الإثنين 10 مارس 2003م الموافق 06 محرم 1424هـ

لماذا لا نتعلم من تاريخ الشرق الأوسط؟

روبرت فيسك comments [at] alwasatnews.com

في مارس/آذار 1917 أصدر الجنرال ستانلي مود «إعلانا إلى شعب ولاية بغداد»، بعد أن غزا جيش مود «المكون من الانجليز والهنود» العراق واحتلها بعد ان دخلها من جهة البصرة وذلك «لتحرير» الشعب من دكتاتورييه.

وصرح الإنجليزي آنذاك «لم يأتِ جيشنا إلى داخل مدنكم وأراضيكم باعتبارنا غزاة أو أعداء، إنما محررون».

وأضاف البيان «يا شعب بغداد تذكروا أنكم عانيتم لفترة 26 جيلا من الطغاة الذين يؤلبون بيت عربي على آخر من أجل ان يكسبوا من وراء تفرقكم وانشقاقاتكم. هذه السياسة مرفوضة لدى بريطانيا العظمى وحلفائها لأنه لن يكون هناك سلام ولا ازدهار حيث توجد العداوة وانعدام السلطة والفوضى».

بالطبع كان الجنرال مود يمثل الجنرال تومي فرانكس في زمانه، وكان إعلانه مليئا بالسخريات مثلما هو خطاب الرئيس بوش الآن إذ كلاهما يحاول إقناع العراقيين بأنه يجب عليهم القبول بالاحتلال الأجنبي بينما تحمي بريطانيا نفط الدولة.

وقد دعا المسئول السياسي للجنرال مود، السير بيرسي كوكس، الزعماء العرب الذين لم يسهموا الى المشاركة في الحكومة بالتعاون مع السلطات البريطانية في العراق وتحدث عن التحرر والحرية والأمجاد الماضية والمستقبل المشرق، وأَمِلَ في ان يصل شعب العراق الى وحدة.

وقد أبرق القائد البريطاني إلى لندن أنه «نتيجة للأحوال المحلية فإن الوضع لا يسمح بشغل مناصب المسئولين إلا بإداريين بريطانيين مؤهلين... للتعامل مع شعب الدولة.

ونتيجة للعداوة الموجودة بين القبائل والعشائر والطوائف العراقية كان من الصعب الوصول الى حكومة واحدة وموحدة، وفي الوقت نفسه تكون ممثلة، منتخبة ومدعومة على نحو واسع. وفشلت الحكومة البريطانية عمليا في كيفية الوفاء بالوعود التي قطعتها تجاه المواطنين المحليين.

وقد كانت هناك مشكلة للأكراد من ذلك الوقت، إذ لم يتخذ البريطانيون موقفا حازما ما إذا كانوا يستوعبون في حكومة جديدة في العراق أو يسمح لهم بتشكيل كردستان مستقلة.

وكان الفرنسيون قد منحوا الموصل في شمال العراق ولكنهم تخلوا عنها من أجل الحصول على سهم أكبر في شركة النفط التركية الجديدة التي صادرتها بريطانيا وأعادت هيكلتها باسم شركة نفط العراق.

إذا كم مرة اقتحم الغرب الشرق بطريقة وقحة للغاية؟ فالجنرال السير ادوارد ألينبي «حرر» فلسطين بعد شهور قليلة فقط من «تحرير» الجنرال مود للعراق. وانبرى الفرنسيون «لتحرير» لبنان وسورية بعد سنتين من هذه الحوادث، إذ ذبحوا القوات السورية الموالية للملك فيصل الذي تجرأ على قول ان الاحتلال الفرنسي ليس هو المستقبل الذي يريده الشعب.

إنني لأعجب أحيانا كثيرة للفشل الدائم في تعلمنا من دروس التاريخ، لنكرر ـ كلمة بكلمة إعلان الجنرال مود ـ الوعود بلا مبرر والأكاذيب.

وبالنظر في المادة «22» من ميثاق عصبة الأمم ـ والتي يدعي بوش انه خبير فيها ـ نجدها تخول البريطانيين والفرنسيين على تقاسم هذه الأقاليم التي «تحررت» لتوها من الدكتاتورية العثمانية. إذ تشير المادة «بالنسبة إلى المستعمرات والأقاليم التي كانت نتيجة الحرب الأخيرة يتم وقفها لتكون تحت سيادة الدولة التي كانت تحكمها سابقا، والتي تقطنها شعوب لاتزال غير مؤهلة على حكم نفسها... إن الطريقة المثلى لرعاية مثل هذه الشعوب يجب أن تؤمن لأمم متقدمة... تستطيع تحمل هذه المسئولية على أكمل وجه».

إذا، السؤال: ما هو هذا «التحرير» للشرق الأوسط؟ وما هذه الثقة المقدسة التي كانوا يتحدثون عنها في الماضي والتي تتطابق الآن مع الوصاية على نفط العراق التي تحدث عنها كولن باول؟ لماذا نرغب مرارا في حكم شعوب الشرق الأوسط؟

إنني لا أرى فيها إلا حروبا صليبية كانت بدايتها المناشدة الأولى للبابا ايربان بالحملة الصليبية في العام 1095 والتي نجد ترويجا لها الآن وسط المتشددين المسيحيين بجانب مناصري إسرائيل الذين يتوقون الآن إلى أن تغزو أميركا العراق.

فقد أخبر ايربان آنذاك مستمعيه أن الأتراك يسيئون معاملة مواطني الأراضي المسيحية - على غرار إساءة حقوق الإنسان التي تقلق بوش الآن - ووصف معاناة الحجاج حاثا الغرب المسيحي على خوض حرب مقدسة ومستحقة. كانت حربه بالطبع تهدف الى «تحرير» المسيحيين أكثر من تحرير المسلمين بجانب اليهود، الذين ذبحهم الصليبيون بمجرد وصولهم الى الشرق الأوسط.

هذه المفردة «التحرير» تصحبها دائما فكرة أخرى في الشرق الأوسط هي: ضرورة الإطاحة بالدكتاتوريين.

كان الصليبيون مهووسين بغزواتهم كالقيادة المركزية الأميركية في تاما (فلوريدا) اليوم. فقد وصف مارينو سنادو، المولود في فينيسيا في العام 1260 كيف ان الجيوش الغربية رابطت على شواطئ مصر بفوج أولي مقداره 15,000 من رجال المشاة بجانب 300 من الخيالة. وفي بيروت امتلك شخصيا خريطة من الغزو الغربي في القرن الثالث عشر. وقد نشر نابليون قليلا من خططه في العالم 1798 عندما غزا مصر بعد 20 عاما بعد الحكم الاستبدادي المزعوم بواسطة مراد باي وإبراهيم باي. وقد تم تشويه سمعة هؤلاء من أجل تبرير الغزو.

وفي الواقع وعد الرئيس صدام بتدمير القوات الأميركية الغازية وهو وعد مطابق لهتاف الحاكم المملوكي في مصر الذي تنبأ بهزيمة الغزاة الفرنسيين في القرن الثامن عشر معلنا «دعوا الفرنسيين يأتون. سنسحقهم تحت حوافر جيادنا». بالطبع قام نابليون بكل السحق وقد أعلن انه جاء «لتحرير» شعب مصر من مضطهديه متضمنا دعوته للنبلاء في مصر بأن يساعدوه في تسيير الحكومة، قائلا «أيها الشيوخ، القضاة، الأئمة والمثقفون في المدينة أخبروا أمتكم ان الفرنسيين أصدقاء حقيقيون للمسلمين... سعيدون أولئك المصريون الذين يتعاونون معنا» وبذلك أوجد نابليون «مجلسا إداريا» في مصر شبيها بالمجلس الذي تنوي إدارة بوش تكوينه تحت الاحتلال الأميركي للعراق. ومن ثم ثار «الشيوخ» و«القضاة» و«الأئمة» ضد الاحتلال الفرنسي في القاهرة في العام 1798.

وعندما دخل الجنرال، ألينبي القدس في ديسمبر/كانون الأول 1917، زود ديفيد ليويد جورج بالمدينة التي يريد والتي يسودها الوجود المسيحي. وكان تحريرها، مماثلا للذي أشار إليه رئيس الوزراء البريطاني بنبرة صليبية بأن تستطيع النصرانية إعادة امتلاك مواضعها المقدسة. وقد انهى ليويد جورج مهمته المتمثلة في إسقاط السلطان العثماني في فترة وجيزة كما ينوي جورج الابن الآن إكمال المهمة التي بدأها أبوه في العام 1991.

في الحرب العالمية الثانية، قمنا «بتحرير» العراق للمرة الثانية من إدارته الداعمة للنازية. وحرر البريطانيون لبنان من الحكم الفيشي مع تقديم وعد بالاستقلال من فرنسا وهو وعد نكثه تشارلز ديغول حتى دخل البريطانيون تقريبا في حرب مع الفرنسيين في سورية.

عانت لبنان من «تحررات» كثيرة مؤسفة. فقد ادعت اسرائيل - بالنسبة إلى العرب «جرثومة» غربية أميركية - مرتين انها قلقة بشأن «تحرير» لبنان من إرهاب منظمة التحرير الفلسطينية وذلك من خلال غزوها في العام 1978 والعام 1982 إذ غادرت مهزومة قبل سنتين ماضيتين. وقد انتهى التدخل العسكري الأميركي في بيروت في العام 1982 بانفجار قنبلة الشاحنة في رئاسة البحرية الأميركية التالية له.

وماذا أخبر الرئيس رونالد ريغان العالم آنذاك؟ تعتبر لبنان مركز استراتيجيتنا على المستوى العالمي... إذ تم الاستحواذ على لبنان بواسطة قوات طغاة معادية للغرب، فذلك لا يهدد موقفنا الاستراتيجي في شرق المتوسط فحسب ولكن الاستقرار برمته في الشرق الأوسط بما في ذلك الموارد الضخمة في شبه الجزيرة العربية.

مرة أخرى حاولنا نحن في الغرب حماية الشرق الأوسط من الطغيان. إذ كانت لأنتوني إيدين وجهة نظر مماثلة تجاه مصر، وكان قلقا بالإطاحة «بالدكتاتور» جمال عبدالناصر كما كان نابليون مهتما بانقاذ المصريين من طغيان الاتراك مثلما يرغب جورج بوش الابن انقاذ العراقيين من طغيان صدام حسين. ودائما تصاحب الغزوات الغربية تصريحات بأن الأميركيين أو الفرنسيين أو الغرب عموما لا يحمل عداوة للعرب فقط الشخصية الطاغية هي المستهدفة من قبل الهجوم العسكري.

إذا ماذا حدث لهذه الكلمات المنمقة؟ كانت الحملات الصليبية كارثة على العلاقات المسيحية- الإسلامية. فقد ترك نابليون مصر في بؤس. وقذفت بريطانيا الأكراد المتذمرين في العراق بالغاز قبل ان يكتشفوا استحالة حكم العراق. ثم أخرج العرب، ثم اليهود البريطاينيين من فلسطين والقدس. وحارب الفرنسيون لسنين عدة العصيان المسلح في سورية. وفي لبنان انسحب الأميركيون منها في العام 1984 بجانب الفرنسيين.

وفي العراق ما الثمن الذي سيدفع جراء حماقتنا وفشلنا في التعلم من دروس الماضي؟ سنكتشف ذلك بمجرد ان تكمل الولايات المتحدة احتلالها. سنكتشف طلب العراقيين بانهاء الاحتلال الأميركي، إذ ستبدأ المقاومة الشعبية في تدمير النجاح العسكري المتمثل في الوجود الأميركي. وستبدأ وقتها قصتنا الحقيقية كصحافيين.

سيتم في تلك اللحظات حل ألغاز الكلمات المنمقة والوعود الكاذبة في الشرق الأوسط. هنا سأقوم ببعض التخمين: في الشهور والسنوات الأولى التي تلي الغزو ستدعي الولايات المتحدة أنها تستطيع خلق ديمقراطية على انقاض الدكتاتورية في الشرق الأوسط بالإضافة إلى تصريف شئون نفطه، ومن ثم ستعاني مثلما عانت بريطانيا في فلسطين، في تلك المأساة كتب ونيستون تشرتشل إذ تنطبق عباراته تماما على أميركا في العراق «في البدء، تكون هناك خطى واسعة وسطحية على بساط، ولكن في النهاية ستنهار وتتفتت الحجارة ذاتها تحت أقدام الغزاة».

خدمة الاندبندنت - خاص بـ «الوسط

العدد 186 - الإثنين 10 مارس 2003م الموافق 06 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 5:09 ص

      لماز منع الكتاب من العرض بعدجهد طويل

      الكتاب في دور العرض

اقرأ ايضاً