العدد 211 - الجمعة 04 أبريل 2003م الموافق 01 صفر 1424هـ

مطار صدام قبيل غزوه

بغداد، مطار صدام الدولي - روبرت فيسك 

04 أبريل 2003

كنت أمس (الأول) بعد الظهر في مطار صدام الدولي قبيل غزوه والاستيلاء عليه من قبل الأميركان. وتساءلت أين الاميركيون؟ تمشيت داخل صالات المغادرة (الخاوية)، وتجولت حول قسم الجمارك الخالي من موظفيه.

كما تحدثت الى سبعة من الحرس المسلح والتقيت مدير المطار ثم وقفت بجانب المدرجات التي ترابط بالقرب منها طائرتا ركاب عراقيتان وقد اعتراهما الغبار - احداهما 727 القديمة واخرى أقدم من طراز انتوتوف - بالاضافة الى مروحية عسكرية خارج الخدمة.

كل ما استطيع سماعه أزير طائرات بعيدة على ارتفاع شاهق وزقزقة العصافير التي اتخذت لها اعشاشا بالقرب من مواقف سيارات المطار في أول أيام فصل الصيف في بغداد.

قبل ثلاث ساعات فقط أخبرتنا اذاعة الـ (بي بي سي) عن ادعاءات بأن وحدات المقدمة من فرقة المشاة الميكانيكية الاميركية اصبحت على بعد أقل من 10 أميال غرب بغداد، وان بعض القوات الاميركية اتخذت مواقع لها على اطراف المطار الدولي. ولكنني الآن على بعد 17 ميلا غرب بغداد، وليس هناك اميركيون، ولا مدرعات ولا توجد حياة هنا بالقرب من مهابط المطار سوى صور صاحب اللقب على واجهة الوصول، ولا يوجد حتى أثر لقوات الحرس الجمهوري التي تتوقع الفرقة الاميركية ملاقاتها هنا.

في الواقع مطار صدام الدولي يبدو وكأنه يعاني اضرابا أو مقاطعة أكثر من تأثره باحتلال شامل من القوة العظمى الوحيدة في العالم. فقد تساءل وزير الاعلام العراقي في مؤتمره اليومي الذي امتد الى ساعتين: «هل الاميركيون في المطار فعلا؟ (علوج) انها أكاذيب محضة، اذهبوا وشاهدوا بأم أعينكم». ومن ثم انتقلنا الى المكان.

واحسرتاه على المتحدث باسم القوات الانجلو - أميركية في الدوحة، حينما أكد الضابط الاميركي في البي بي سي ان الوزير العراقي محق وان الاميركيين مخطئون. اذا نستخلص من هذا عدة أمور: مرة أخرى قُبض على الاميركيين متلبسين بالأكاذيب - قالت قواتهم إنها أمّنت الناصرية قبل اسبوع -ولكن هل كل ذلك هو الدافع الذي جعل الصحافيين يقبلون الذهاب الى مطار صدام؟

لم نشاهد حرسا جمهوريا - اذ فشل الاميركيون انفسهم في كشف مواقع نحو 12,000 ألف من الحرس الجمهوري يفترض انهم سيلاقونهم. وفي الواقع ما استنتجه أمر غير عادي وهو يُظهر انه ليست هناك محاولة كلية لسد الطريق المؤدي الى بغداد من المطار. وبغض الطرف عن الجنود القليلين العراقيين الموزعين هنا وهناك على الشوارع بالاضافة الى عربات الشرطة، يعتقد المرء انه في أمسية لعطلة صيفية هادئة.

أين كان الاميركيون اذا... هل هم مختفون في الحقول العظيمة على الضفة الغربية لنهر دجلة؟

حقا اخذت أفكر طوال الوقت، واسأل نفسي عن الهجوم الاميركي المزعوم على بغداد. أين تلك الحشود المذعورة؟ أين صفوف الغذاء؟ أين الشوارع الفارغة؟ صحيح، ان الطريق الى المطار ربما كان خاليا، وكانت الرحلة موحشة، ولكن وسط بغداد يبدو أكثر حيوية من الأيام الماضية. فقد سيرت سلطات المدينة مزيدا من الباصات الصينية الصنع في المواصلات - وقالت انها خدمة عادية تم استئنافها - وقالت شركة السكك الحديد ان قطاراتها مازالت تسافر الى شمال العراق.

وفي وقت الغذاء، دخلت محلات فرود للسندويتشات لأخذ حصتي اليومية من الدجاج «شيش طاووق»، الطماطم والفاصوليا الخضراء.

انه مليء بالأسر، والشباب والشابات الذين يطلبون اطباقا مثل «التبولة» «واللحم والأرز».

يعرض التلفزيون قناة ايرانية، موسيقى باللغة الايرانية - لدى التلفزيون الايراني قناتان باللغة العربية يمكن التقاطهما هنا من دون طبق فضائي - اذ يثق كثير من البغداديين بأخبارهما أكثر من التلفزيون الكويتي أو السعودي. وبالقرب من جسر الرافدية، رأيت رجلا في مقتبل عمره يحدق في نصب تذكاري عظيم لنصر صدام في الحرب مع ايران العام 1980 - 1988، ويُظهر جنودا معتمرين خوذاتهم وهم يقفون خلف أكياس من الرمل يطلقون رشاشاتهم على اعدائهم الايرانيين. من جهة اخرى ذكر ان اسرى الحرب السابقين طالبوا بنصب يظهر معاناتهم خلال ثماني سنوات اذ يصل عددهم الى 60,000 أسير، ولكن طلبهم رفُض.

هل يُظهر ذلك اهانة واستسلاما؟ هل يكون ذلك درسا للجنود العراقيين الحاليين الذين يخوضون الحرب؟ في كل ليلة اسمع اصوات الانفجارات والقنابل العنقودية غرب المدينة، من الذي يموت هناك؟ فقد أعلن رئيس هيئة اركان فرقة بغداد من الحرس الجمهوري، التي يفترض ان تشتبك معها القوات الاميركية، ان قواته فقدت نحو 17 جنديا فقط وجرح منها 35 فردا.في كل يوم تنشر صحيفة «القادسية» تقارير عن الخطوط الأمامية العراقية - ان كانت هناك خطوط أمامية - تتضمن اعداد الوحدات والكتائب. اذ طالعت الصحيفة قراءها قبل 4 أيام بفشل الاميركيين في عبور جسر الكوت المؤدي الى بغداد، وان القوات العراقية دمر 14 دبابة أميركية في محافظة الديوانية، وان الالوية 704 و424 و504 من الفيلق الثالث العراقي استطاعت منع دخول القوات الاميركية الى سوق الشيوخ.

وفي الواقع لا احد يثق كثيرا في المعلومات التي يوردها المسئولون العراقيون على رغم انهم اثبتوا امس الأول اسقاطهم طائرة «إف - 18».

اذا حينها يمكننا ان نصدق تصريحات مديرة المطار وفاء عبدالله جبوري بأنه لا يوجد أحد في المطار من الغزاة وان الموظفين يداومون يوميا كالعادة، وانه آمن سوى تحطم بعض اجزائه مثل أنظمة الرادار في هجمات للطائرات الاميركية والبريطانية في السابق.

ويتعجب المرء هنا هل الاميركيون وجدوا انفسهم على اطراف مطار لقاعدة سلاح الجو الملكي البريطاني في الحبانية، واعتقدوا خطأ انهم في مطار صدام؟ أم انهم أرسلوا دورية جوية الى مطار صدام الدولي لدقائق معدودة ليقولوا انهم هنا؟ فبالعودة الى العام 1941، احتلت دورية ألمانية لفترة وجيزة محطة ترام على الطريق غرب موسكو، وقامت بجمع تذاكر الركاب المرمية دليلا على ذلك، ولم تتقدم أكثر من ذلك، ولكن يعتقد كثيرون ان الاميركيين لن يسرعوا الخطى نحو بغداد. إن كانوا فعلا يريدون احتلالها، ففي النهاية «سيصل نابليون موسكو». واعتقد ان الامر اليوم شبيه بالأمس. لقد احتفظ الروس بقبضتهم على ستالينغراد لأنهم يحبون روسيا مثلما يخشون سطوة المارشال ستالين. فهل ستنطبق معادلة الوطنية والخوف من الديكتاتورية على العراقيين؟

يأمل السيدان بوش وبلير طبعا ألا تكون المعادلة هي نفسها.


... وفيسك يرد على وزير الدفاع البريطاني

مسكين وزير الدفاع البريطاني، جيف هون ان ينتقد تقارير مراسل صحيفة الاندبندنت، روبرت فيسك من بغداد. إنه من الصعب الدفاع عن شيء يستحيل الدفاع عنه عندما يصر الأميركيون على وضع رموز شفرية كمبيوترية على صواريخهم تظهر مصدرها حتى بعد تدميرها للأبرياء وجعلهم أشلاء. خذ مثالا على ذلك الرجل العجوز ـ أكثر مسكنة من جيف في كل الجوانب ـ الذي وجد خردة الصاروخ التعريفية في حي الشعلة الأسبوع الماضي، مثبتا أن الصاروخ الذي ضرب حي المسلمين الشيعة المتواضع كان من صنع شركة رايثيون، المتخصصة في صواريخ كروز.

نعلم أن الخدمة السرية العراقية وحشية، وجهاز رديء، ولكن ليس من أهدافها الآن المكر وتعقيد الأمور. إن القول بأن رجال أمن صدام حولوا أسلحتهم نحو تلك الأحياء الفقيرة ـ التي يقطنها مواطنون معروفون بكراهيتهم لأعضاء حزب البعث المسئولين عن قتل عدد من أتباعهم ـ لإقناع سكان أميين بقول كذب صريح للصحافيين الأجانب عن حقيقة مصدر الصواريخ يعتبر أمرا خارجا عن المعقول. هناك كثير من أجزاء الصواريخ المدمرة في جميع أنحاء حي الشعلة ـ إذ قمت بتجميع خمسة أجزاء منها بنفسي، مصنوعة من المعدن نفسه، وانفجرت اثنتان من القنابل وسط الركام بإشرافي.

هل يعتقد هون حقيقة أن المُعذِّبين العراقيين في جهاز الخدمة السرية لديهم مقدرة على الذهاب إلى هذه الأحياء العدوانية، ودفن أجزاء شظايا غامضة من أجل أن يفجرها مراسل الإندبندنت في ذلك المكان؟ هل يعلم جيف أن خال أحد الرجال الموتى رأى بأم عينيه الطائرة ووصفها بدقة بعد أن هاجمت الحي؟ وكذلك الحال لدى الصاروخين اللذين ضربا حي الشعب في بغداد في بداية الأسبوع الماضي. مرة أخرى انفجرت الصواريخ وسط أحياء للفقراء، ومنازل أولئك السكان الذين يعارضون نظام صدام.

لقد سمعت صوت طائرة تجوب سماء بغداد، وأطلقت صاروخين على ثكنات عسكرية قبل انفجار حي الشعب بقليل ـ

واندهشتُ حقيقة حينما علمت بأن جيف لم يعترض على الغارة الجوية على «الشعب» ـ وتحدثتُ على الأقل لثلاثة من سكان المنطقة الذين سمعوا صوت الطائرة المتزامن مع انفجار الصواريخ، إنهم السكان أنفسهم الذين أقسم هون في الواقع «بتحريرهم» من صدام.

حدث انفجار الصاروخين بجانب بعضهما بعضا. كل منهما في أحد جانبي طريق المركبات في حي الشعب. هل يعتقد هون أن العراقيين يستطيعون شن انفجارين متطابقين ـ من الجو ـ على أهداف بمسافات متساوية في الطريق المزدحم بالسيارات، والمشاة، وحراس الشقق، وعمال المطاعم وميكانيكي السيارات؟

أعتقد أن الكذب هو الذي يغلب على تصريح هون، وانه مثير أكثر من تقارير فيسك، اذكر انه عندما قذفت أميركا ليبيا في العام 1985، تمت معاملتنا بمثل هذا الغباء. قيل إن المدنيين القتلى كانوا ضحايا لجهاز الخدمة السرية الليبي أو نيران الدفاعات الجوية الليبية. وادعى الإسرائيليون الشيء نفسه عندما قتل نحو 17,500 شخص في غزو لبنان 1982. وعندما ذبح الأميركيون عشرات اللاجئين الألبان في كوسوفو في العام 1999، زعموا ان طائرة صربية هي التي ارتكبت المذبحة ـ حتى كشفت «الاندبندنت» أجزاء الصواريخ، ومرة أخرى انفجرت قنابل خارج «فوهة الصاروخ» بيديّ ـ وهي تحتوي على رموز شفرة كمبيوترية أجبرت الناتو على الاعتراف بالحقيقة.

إلى متى يعتقد الوزراء انهم يقنعون ناخبيهم بهذا الروتين الغامض؟ كم مرة يشوه أحد الرجال مثل ديفيد بلنكيت سمعة المراسلين الذين يكتبون «من خلف خطوط الأعداء» في حرب تدعمها حكومته ولكن يرفض الملايين في بريطانيا أن يعترفوا بشرعيتها؟

مازلت أتذكر عيادة في قطار إيراني سافرت فيه عائدا من جبهة الحرب الإيرانية ـ العراقية في مطلع الثمانينات. كانت عربات القطار مكتظة بالجنود الصغار الإيرانيين، يسعلون مادة مخاطية ودما في المناديل، بينما يقرأون القرآن. لقد تم رشهم بالغازات السامة ويبدو وكأنهم على وشك الموت. وفعلا مات جزء منهم. في ذلك الوقت كنت أعمل لصحيفة «التايمز» وقد كتبت تقريرا كاملا عن الأسلحة المحرمة السامة التي استخدمها النظام العراقي. إلا أن مسئولا في وزارة الخارجية البريطانية أدان رئيس التحرير في صحيفتي وأخبره أن تقريري «غير مساعد» وغير بنّاء.

طبعا، لأننا (البريطانيون) كنا ندعم صدام في ذلك الوقت ونريد تدمير ومعاناة إيران الإسلامية. في ذلك الوقت كان صدام يمثل الرجل المثالي. وكان من المفترض ألا أكتب عن انتهاكاته لحقوق الإنسان.

والآن كان من المفترض ألا أخبر عن مذبحة الأبرياء بواسطة الطائرات الأميركية والبريطانية، لأن الحكومة البريطانية غيرت مواقفها من الضربة. إنه تكتيك يستحقه رجل واحد فقط كما أعتقد، يعتبر هو الضحية عندما يكون في وضع القاتل، رجل لا يفكر أبدا في عملية تشويه سمعة الأبرياء من أجل الترويج لتاريخه. إنني أتحدث عن صدام حسين الذي تعلّم جيف هون منه كثيرا.

(خدمة الإندبندنت - خاص بـ «الوسط»

العدد 211 - الجمعة 04 أبريل 2003م الموافق 01 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً