العدد 217 - الخميس 10 أبريل 2003م الموافق 07 صفر 1424هـ

الضحايا المدنيون: الوجه غير الأخلاقي للحرب

استلقى الضحايا في مستشفى «الكندي» من بينهم رجل يبيع السيارات فقد عينه للتو ولكن مازالت رجلاه تنزفان دما. وسائق دراجة بخارية أصابته شظية أطلقت عليه من قذيفة أميركية بالقرب من فندق الرشيد. ثم موظفة الخدمة المدنية البالغة من العمر خمسين عاما التي تناثر شعرها الأسود على المنشفة التي ترقد عليها، وقد احترق وجهها وصدرها وفخذاها وذراعاها ورجلاها بشظية من قنبلة عنقودية أميركية.

ويعتقد المواطنون المدنيون في العراق ان هذا هو وجه الحرب اللا أخلاقي الحقيقي، المتمثل في الخسائر المباشرة لمهمة الأميركيين في التفتيش عن اسلحة الدمار الشامل في بغداد.

كانت صور التلفزيون البريطاني اثناء الزيارة الخاطفة التي قامت بها قوات المارينز للقصر الرئاسي على ضفاف نهر دجلة. لكن لم تظهر الصور الأبرياء وهم ينزفون دما ويتأوهون ألما من أجل الا تثيرنا ولتوفير مادة لمحادثات النصر (الثلثاء الماضي) في بلفاست بايرلندا. وشاهدت طفلا صغيرا في مستشفى الكندي قتل أبوه وأمه واخوته الثلاثة عندما اقتربوا من نقطة تفتيش أميركية خارج بغداد.

وشاهدت ايضا علي النجار الذي يبلغ من العمر عامين ونصف العام مستلقيا على سرير متألما بجراحه وتقطر ملابسه بالدماء، ووضع أنبوب في أنفه، وقد جاءني أحد اقربائه وصرخ فيّ «أريد ان اتحدث معك، لماذا انتم البريطانيون تريدون قتل هذا الطفل الصغير؟» وأضاف وقد ارتفع صوته واستشاط غضبا: «لماذا ترغبون في مشاهدته؟ أنت تنظر إليه الآن»، وأمسك الرجل بيديّ وهزهما بعنف: «هل تريد ان تحيي له أمه وأباه مرة أخرى؟ هل تستطيع اعادة الحياة لهما بعد موتهما من أجله؟

وصرخ فيّ مرة أخرى: أخرج من هنا، أخرج.. أخرج! في الساحة الخارجية حيث يضع سائقو الاسعاف الموتى، كانت هناك امرأة مسنة تلبس سوادا تضرب بيديها على خديها وصدرها ثم صرخت فيّ عندما أجبرتُ على الخروج إلى الساحة قائلة: «ساعدني، ساعدني، ابني شهيد وكل ما أريده قماشا أغطيه به. أريد علما، علما عراقيا لأضعه على جثته . يارب.. أعنّي».

أصبح من الصعب جدا زيارة مثل هذه الأماكن التي يسودها الألم والاشمئزاز والغضب. وحقيقة لم افاجأ بهذه المواقف.

وقد أعلنت منظمة الصليب الأحمر الدولية ان الضحايا المدنيين للعدوان الأخير الذي استمر ثلاثة أيام على بغداد وصلوا إلى المستشفيات بالمئات.

لقد تلقى مستشفى الكندي وحده خلال أربع وعشرين ساعة نحو 50 جريحا مدنيا وثلاثة قتلى، غالبية الموتى - أسرة الطفل الصغير الذي ذكرناه أولا، أسرة مكونة من ستة أشخاص قطعوا إربا إربا في غارة جوية أمام علي عبدالرزاق، بائع السيارات، جيران صفا كريم - تم دفنهم ببساطة خلال ساعات من سحقهم.

كانت صور التلفزيون «نظيفة»، عرضت الـ «بي بي سي» مساء الاحد الماضي، سيارات مدنيين محترقة إذ قال مراسلها - الملتحق بالقوات الغازية - انه رأى ركابها ملقيين موتى بجانبها.

لكن لم يعرض التلفزيون الجثث المحروقة، ولا صور الاطفال الجرحى الذين يصرخون من الألم. انني احذر البي بي سي من تجاهل صور هؤلاء الابرياء، ولكن اذا اراد مسئولو البي بي سي معرفة المزيد مما فعلته بريطانيا وأميركا بأبرياء بغداد عليهم قراءة هذه الأسطر.

لقد تركت وصف الذباب الذي تجمع على الجروح في غرف طوارئ الكندي، وكثرة الدماء في الملاءات وأكياس المخدات المتسخة، وأنهر الدماء على البلاط، والدماء التي مازالت تقطر من جروح أولئك الذين تحدثت إليهم من قبل، جميع هؤلاء مدنيون.

جميعهم يريدون معرفة لماذا هم يعانون؟ جميعهم يتحدثون عن آلامهم بكل جرأة وهدوء. لم يحضرني رجل حكومي الى هذا المستشفى ولم يعلم أي طبيب بمقدمي.

دعونا نبدأ بعلي عبدالرزاق (40 عاما) رجل مبيعات السيارات الذي كان يتمشى صباح ذلك اليوم في الشارع الضيق في حي الشعب من بغداد - المكان الذي لقي 20 مدنيا على الأقل مصرعهم بفعل صاروخين أميركيين قبل اسبوع - عندما سمع هدير الطائرات المعادية. فقال لي: «كنت ذاهبا لزيارة اقربائي لأن الهواتف تم قصفها وأريد ان اطمئن انهم بخير». وأضاف «كانت هناك أسرة تتكون من زوج وزوجة وأطفال امامي. فجأة رأيت بريقا. واهتزت الأرض تحت قدمي. لقد تقطعت الاسرة إلى اشلاء. أردت أن أساعدها ولكنني لم أر شيئا أمامي، وقد أصبت في عيني بشظية وحروق في رجلي» وتبسم عبدالرزاق: «لم أكن متوقعا ان أصبح وحيد العين، لماذا حدث لي هذا؟»

كان محمد عبدالله علواني أحد ضحايا الاقتحام الأميركي امس الأول على شاطئ دجلة، العملية التي وفّرت لقطات مثيرة للتلفزيون البريطاني. كان راجعا الى منزله على دراجة بخارية من فندق الرشيد على الشاطئ الغربي لنهر دجلة عندما مر بطريق وقفت فيه مدرعة أميركية. يقول: «شاهدتهم فجأة. قاموا بإطلاق النار عليّ وضربوني واصابتني طلقة بالقرب من الرئة بعمق نصف بوصة». كان الدم ما يزال يجري على رجليه.

وسألني: لماذا يستهدفون المدنيين؟

نعم انني اعلمب الحجج التي يسوقونها بأن صدام كان سيقتل أكثر من العراقيين اذا لم نقم بهذا الغزو - وهي حجة بغيضة في مستشفى الكندي - الذي هو في صالحهم ومن أجلهم. ألم يخبرنا بول وولفويتز قبل أيام قليلة انه دائما يصلي من أجل القوات الأميركية ومن أجل شعب العراق؟! ألم نأتِ إلى هنا من أجل انقاذهم - دعونا لا نذكر هنا شيئا عن نفطهم - أليس صدام رجلا قاسيا ووحشيا؟

ولكن وسط هؤلاء الناس تبدو مثل هذه التساؤلات ضربا من الغموض.

كانت موظفة الخدمة المدنية الجريحة سعدية حسين الشمري وتعمل في وزارة التجارة العراقية، اصيبت بحروق جسيمة وهي الآن لا تستطيع التحدث من آلامها. وقد أولتها طبيبة عناية وأخذت تبعد الذباب عن جروحها الناتجة عن قنابل عنقودية.

وكان من بين الضحايا صفا كريم التي لقيت حتفها في المستشفي، وتبلغ من العمر احد عشر عاما اصيبت في بطنها ما سبب لها نزيفا داخليا، وأعطي لها نحو 10 زجاجات من الدواء ولكنها تقيأت كل ذلك قبل ان تودع روحها. سأل رجل بالقرب منها لماذا فعلوا بنا كل هذا. اجبته سرا: يجب ان تموت صفا كريم ويتألم هؤلاء الأبرياء من اجل الحادي عشر من سبتمبر، ومن أجل أوهام جورج بوش والمبادئ الاخلاقية لطوني بلير وأحلام بول وولفويتز في «التحرير» ومن أجل الديمقراطية التي شققنا طريقنا إليها عبر أرواح هؤلاء الناس!


يوم آخر من المعاناة والموت من أجل ديمقراطية بوش!

كان يوم الثلثاء الأخير في الحرب الأميركية لـ «تحرير العراق» يوما آخر من القتال العنيف والمعاناة والموت. لقد بدأ اليوم بهجوم بطائرات A01 النفاثة التي كانت تهتز في الجو مثل البهلوان وتنثر الفسفور الحارق في السماء لتضليل القذائف الباحثة عن الحرارة قبل توجيه مدافعها إلى وزارة حكومية وتمطرها بقذائف اليورانيوم المنضّب.

لقد انتهى اليوم مع امتلاء المستشفى بالجرحى ومقتل ثلاثة من المراسلين الأجانب وجرح خمسة آخرين.

لقد مرت طائرات A01 بالقرب من نافذة حجرة نومي وكانت قريبة إلى درجة انني استطعت مشاهدة مقعد الطيار. وعندما وجهت قذائفها المخصصة للاستخدام ضد الدروع وضد وزارة التخطيط العراقية التي تعرضت للقصف من قبل كان المشهد مخيفا. وكانت أصوات نيران المدافع تبدو مثل الاثاث الخشبي الذي يتحرك في غرفة خالية.

وعندما ضربت القنابل الوزارة المطلية باللون الأحمر - تلك البناية الكئيبة بجانب جسر الجمهورية على نهر دجلة والتي كنت اشك دائما انها مقر لقيادة المخابرات - أضاءت المكان بوميض من الضوء الأحمر والبرتقالي الناجم عن انفجار القذائف.

وقد انبعثت من البناية سحابة كثيفة من الدخان الأبيض الذي كان يحتوي على رذاذ دخان اليورانيوم المنضّب الذي يخشى الكثير من الاطباء والخبراء العسكريين من أنه قد يسبب الاصابة ببعض امراض السرطان.

ثم قامت مجموعة من الطائرات النفاثة من طرازF81 بالطيران على ارتفاع منخفض فوق بغداد حتى انك تستطيع ان تشعر بثقة طياريها. وقد انطلقت قذيفة واحدة مضادة للطائرات ولكنها كانت بطيئة بالنسبة إلى تلك الطائرات النفاثة.

وقد شاهدت في هذا الوقت تقريبا الدبابات على جسر الجمهورية. كانت هناك دبابتان من طراز M1A1ابراهام تتمركز احداها في وسط الجسر بينما كانت الاخرى متوقفة على أول دعامة للجسر.

لقد أعلن الأميركيون أن هذه مجرد غارة أخرى صغيرة لجس النبض ولكنها كانت تبدو أكبر من ذلك. واذ عززت فرقة المشاة الثالثة الأميركية احتلالها للطرف الجنوبي الغربي من العاصمة على نهر دجلة فإن تحركها بالتأكيد باتجاه الشرق عبر جسر الجمهورية ثم عبر جسر رشيد إلى الشرق ومن ثم إلى جسر الاحرار.

وقد وصلت إلى الطرف الشرقي من جسر الجمهورية بعد ساعة ونصف الساعة، وهو طريق سريع مهجور ذو اربعة مسارات كان يحجب الدبابات الأميركية على الجانب الآخر. وكنت اعرف ان الأميركيين على الجانب الآخر من هذا الجسر. بينما سرت بسرعة إلى نهاية الجسر.

لقد كشف هذا المشهد بعض الاشياء الجديرة بالملاحظة. فبينما كانت قاذفات القنابل الأميركية تخترق السماء وكانت الأرض تهتز نتيجة قذائف المدفعية.

ثم تجاوزت جسر باب المعادم مرورا بالوزيرية حتى وصلت الى المنصور، حيث أقارب المدنيين العراقيين الاحد عشر الذين قتلوا في مجزرة الاثنين الماضي - لقد استخدم الأميركيون في هذه المجزرة أربع قنابل زنة الواحدة 2000 رطل لتمزيق عائلات مسيحية في محاولاتهم العقيمة لقتل صدام - ينتظرون استخراج ما تبقى من جثث عائلاتهم.

وكان الناس يسيرون في الشوارع، وقد شاهدت بائعي السجائر ورجالا ونساء اصطفوا لشراء الخبز والمحروقات وباصا حكوميا بنصف حمولته من الركاب.

وكانت المسافة التي قطعتها حول بغداد تصل إلى حوالي 15 ميلا، كما انني عبرت نهر دجلة الى الغرب من المدينة. وفي طريق عودتي مرورا بجسر الاحرار شاهدت حشدا من المتفرجين يقفون على حاجز الجسر وينظرون الى الدبابات الأميركية بشعور يتسم بالخوف والمتعة. هل كان هؤلاء الناس لا يدركون ما يدور في مدينتهم - وهي الفكرة التي استحوذت عليّ حديثا! - أم أن هؤلاء الفقراء من سكان بغداد في حال من الجهل بالحوادث حتى أنهم لا يدركون بأن الأميركيين على وشك احتلال مدينتهم؟

هل يُعقل ان بائعي السجائر والاشخاص الذين يقفون في الطوابير لشراء الخبز وسائقي الباصات لا يعرفون ما يدور على ضفتي نهر دجلة؟...

أما رحلة العودة إلى فندق فلسطين فقد اتسمت بالقلق والسرعة الشديدة. ولم أشاهد سوى شرطي واحد يقوم بحراسة الجانب الغربي من جسر الجمهورية. وعندما عدت الى فندق فلسطين شاهدت دخانا ينبعث من القذيفة التي اطلقها الأميركيون داخل مكتب وكالة «رويترز». لقد أودت القذيفة بحياة شخصين بالاضافة الى مراسل قناة «الجزيرة» الذي قتل قبل ساعات قليلة نتيجة قصف جوي على مكتبه. وعلى رغم الحصول على تأكيدين منفصلين من الحكومة الأميركية بأن مركز عمليات قناة «الجزيرة» لن يستهدف فإنه تم تدميره. وبعد حوالي نصف ساعة قامت احدى الدبابات على جسر الجمهورية باطلاق قذيفة على حطام المركز. وكانت هناك تقارير بأن ثمانية عشر مدنيا - منهم خمس عشرة امرأة - كانوا يختبئون في الدور الواقع تحت الأرض ولم يكن هناك أمل في انقاذهم سريعا.

وقد حاول الصليب الأحمر الدولي ترتيب اخراج قافلة من بغداد ولكن الأميركيين رفضوا السماح بمرور تلك القافلة من دون اعطاء تفسير لذلك الرفض. وفي احدى المراحل حاول موظفو الصليب الأحمر اخذ مراسل تلفزيون اسباني معهم - كانت رجله قد بترت بعد انفجار قذيفة بالقرب من مكتبه في الفندق - ولكنه مات بعد الظهيرة.

وقد اصدر قائد وحدة المشاة الأميركية بيانا قال فيه: إن مصوري «رويترز» كانوا يطلقون النيران على دبابة أميركية! وهو بيان غريب وغير حقيقي أحدث احتجاحات واسعة من قبل الصحافيين.

وعند الغسق عادت القاذفات المقاتلة، اذ قامت طائرتان من طراز F81 بالتحليق بشكل متكرر اسفل نهر دجلة لتقصف وتعيد قصف برج الاتصالات في بغداد الذي تم ضربه وتدميره من قبل.

لربما كانت الطائرات تريد تسوية الهيكل بأكمله بالارض. وعندما توقفت الغارات الجوية بشكل مؤقت لف الدخان المنبعث من القنابل وحرائق الخنادق النفطية. وقد دوى صوت المؤذن في شارع سعدون مناديا «الله أكبر» «الله أكبر» «أشهد ألا إله إلا الله» «أشهد أن محمدا رسول الله».

وهناك امر عجيب بالنسبة إلى الكلاب الضالة في بغداد... إذ بدأت تنبح. . انها تشعر دائما بعودة قاذفات القنابل! هل يحدث بعض التغيير في ضغط الهواء أم توجد تكنولوجيا متطورة للتمييز بين شدة الأصوات تستطيع الكلاب ادراكها ولا يستطيع البشر التعرف عليها!؟

الكلاب تكون صائبة بشكل دائم، فعندما تنبح يعرف الناس ان الطائرات عادت ثانية. وقد استمر نباح الكلاب عندما حل ليل يوم الثلثاء الماضي. واستطعنا سماع دوي الانفجارات في جنوب بغداد خلال ربع ساعة.

روبرت فيسك - (خدمة الاندبندنت - خاص بـ «الوسط»

العدد 217 - الخميس 10 أبريل 2003م الموافق 07 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً