العدد 190 - الجمعة 14 مارس 2003م الموافق 10 محرم 1424هـ

صورة «قلمية» للحياة في بغداد عشية الحرب

عصام فاهم العامري comments [at] alwasatnews.com

.

لم تتغير معالم الصورة في الشارع العراقي مع ان اياما معدودة صارت تفصل العراق عن موعد الحرب التي تحشد لها اميركا وحليفتها بريطانيا. وعدم تغير الصورة يكاد يصيب بالفصام كل من لم يتلامس ويتعايش مع المناخ النفسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي للعراقيين في العقد الاخير. وهذا ما يكاد يحدث لزوار بغداد من الاجانب حين يقارنون بين ما تحمله مطالعاتهم وقراءاتهم وسيناريوهات هذه الايام في الشأن العراقي وبين ما يرونه بأعينهم الباحثة عن شكل، يتطابق مع الصور التي جمعتها مخيلاتهم قبل مجيئهم إلى بغداد وما يتحسسوه جليا امام انظارهم. فقبل التوجه إلى بغداد ينتاب الزائر الشعور بانه ذاهب إلى بلد محاصر. غير ان المشهد سرعان ما يقلص هذا الشعور لدى الوصول إلى بغداد، وبعد ان تتبين حقيقة ازالة مظاهر الدمار الناجم عن حرب الخليج العام 1991. وبعد ان يتأكد من اعادة اعمار المباني التي دمرها القصف الجوي الاميركي البريطاني في العام 1998.

ثم يبرز مظهر الشوارع المزدحمة بالسيارات والمتسوقين والمتاجر وهي مكدسة بالمواد الغذائية، فإذا بالزائر ينسى طبول الحرب التي تقرع في واشنطن، ويتعزز هذا النسيان عندما يرى الزائر شوارع بغداد مضاءة في الليل والاشجار تزين الطريق السريع. وما عدا الخنادق الشقية التي تحفر في المناطق السكنية والسواتر التي صارت تقام على جوانب الشوارع الداخلية المختلفة للعاصمة العراقية، فلاتبدو المدينة ستتعرض لاعصار كثيف من القنابل والصواريخ التي ستمطر فوقها بعد ايام. فالمواطنون من موظفين حكوميين وعمال وباعة متجولين ورجال اعمال وأدباء وطلاب يزاولون حركتهم من الصباح إلى المساء. ومازال المرور يتجمد فوق الجسور وقت خروج الموظفين من دوائرهم، بل ان المرء تنتابه الدهشة عندما يرى الناس لا يواصلون الذهاب إلى العمل أو المدارس فحسب، وانما ايضا يذهبون إلى المسارح إذ تعرض مسرحيات يصفها النقاد بـ «الهابطة» التي تمثل نتاج ما صار يطلق اصطلاحا «المسرح التجاري».

ويرتاد الناس المطاعم، حتى ان الكثير من زوار بغداد التي عرفوها في العقود السابقة يصابون بنوع من الدوار عندما يزورون الآن منطقة العرصات في بغداد ويجدون المحلات والمطاعم فيها على غرار ما هو قائم في شوارع المدن الغربية الرئيسية إذ الكثير منها يأخذ اشكال المحلات والمطاعم المنتشرة في جادة الشانزليرية في باريس إذ مازالت هذه الامكنة محتشدة بزبائنها.

دلالة استمرار الحياة الطبيعية تبرز ايضا في استمرار عمال البناء في ترميم الابنية الحكومية وتوسيعها. وتتعزز هذه الدلالة عندما يقودك التجوال في المناطق السكنية للعاصمة كما في المدن الاخرى لمشهد الحركة الدؤوبة من قبل المواطنين لبناء مساكن لهم بعد ان وفرت المؤسسات الحكومية مواد البناء المستوردة باسعار مخفضة مدعومة.

وهكذا يسألني مندهشا الصحافي في صحيفة الفيغارو الفرنسية (رينو جيرارد) ما معن ان تنشر الصحف العراقية كما التلفزيون اعلانات وبهذا التوقيت عن مناقصات حكومية لاعمال تجهيزات مواد او مقاولات بناء بعشرات او مئات ملايين الدنانير...؟

وما لم يتساءل عنه جيرارد هو اعلانات الـ «بمبش» وهي اعلانات مثيرة كثيرا ما يكررها التلفزيون وهدفها الترويج لبطاقات اليانصيب الرياضي للعام الحالي والتي تعد الفائزين فيها بسيارات من ماركة بيجو ومسيوبيشي وبي ام دبليو ومرسيدس شبح.

ومن يتابع الاذاعة والتلفزيون في العراق يلحظ اهتمامها ببرامج الاغاني والمنوعات حيث بورصة وسباق وطلبات الاغاني، فضلا عما تعرضه القنوات المتخصصة بالمسلسلات والاخرى الرياضية، فان قناة الشباب وقناة العراق تعرضان يوميا اربعة افلام اثنين منها على الاقل عربية واثنين اجنبية (غالبا ما تكون اميركية).

ولولا الدورات التدريبية على السلاح التي يتجه اليها العراقيون من عمر 14 إلى عمر 60 سنة، فإن البرامج الاعتيادية للاذاعة والتلفزيون توحي بعدم الاكتراث بالتهديدات الاميركية بشن الحرب، سيما وان الوزارات والمؤسسات الحكومية مستمرة في تنفيذ ما موكل اليها من تنفيذ الخطط العشرية للنهوض الاقتصادي والاجتماعي «بهدف تحقيق نمو اقتصادي سنوي بمقدار 11 في المئة كحد ملزم». وعندما تسأل عن سبب هذا التوجه الحكومي في تنفيذ البرامج الاقتصادية من دون وضع اعتبار لما يمكن ان يتعرض له البلد من دمار جراء هجوم عسكري اميركي... فالجواب سرعان ما يأتيك على نحو مقنن، هو ان العدوان الاميركي يستهدف تعطيل عجلة البناء والتقدم في العراق، واحد الادوات التي اعتمدها الاعداء لتحقيق هذا الهدف هو الحرب النفسية، وبالتالي ايقاف البرامج والخطط الموضوعة كحركة الاقتصاد والسياسة والحياة بشكل عام هو ما يريده الاعداء، وعلى العكس فإن الاستمرار في حركة البناء والنهوض هو المقدمة لصد العدوان».

وبعيدا عن الاجابات الرسمية، فعندما تسأل المواطنين عن رؤيتهم لما يمكن ان يجري، فإن غالبتيهم تؤكد من «أن الأميركيين سيقومون بالهجوم. وإن هذا الهجوم مسألة أيام».

عادل قاسم كاسب بسيط لايزيد مكسبه اليومي في احسن الاحوال اكثر من ثلاثة آلاف دينار أي نحو دولار ونصف يقول «نحن شعب صابر وقوي. نحن لا نخاف من الحرب خدمنا في الحرب مع ايران وصرنا في حال حرب مع اميركا منذ 22 سنة. لقد تعودنا. ماذا يريد منا (يقصد بوش). لماذا يضربنا. هو أكيد عنده طمع بنا لان في بلدنا (خير كثير)».

مقال معلمة ابتدائية قاتها قطار الزواج وتلقي بمسئولية ذلك على ظروف الحصار، تقول «نحن لا نريد الحرب، ولكن ما عسانا ان نفعل نعيش ايامنا عادية. هذا شيء عادي، ليست أول مرة أميركا تشن حرب علينا... ثم ان الموت يدركنا مهما فعلنا... ان الله وحده الحامي».

ويقول مزهر تركي (موظف حكومي) بلهجته العراقية «اذا الجيش الاميركي دخل العراق والله ما راح نخلي واحد منهم الا ما نبيده. هم اذا رجال شجعان خليهم يقاتلونا وجها لوجه ويقابلونا جندي بجندي. وموبس يضربونا عن بعد بطائرات وصواريخ. لكنهم جبناء».

وغالبية العراقيين يسلمون امرهم إلى الخالق عز وجل في الوقت الذي يقدرون ان الحرب لم يعد ممكنا تفاديها. يقول حمزة طالب سائق سيارة اجرة «ما عندنا خيار الا الاتكال على الله. نحن شعب يؤمن أنه فوق كل ذي قدرة الله القادر العظيم. ثم نحن نؤمن انه لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا».

بعض العوائل العراقية الثرية خرجت إلى خارج العراق، غير ان معظمها عاد الآن بعد انقضاء العطل نصف السنوية، ومعاودة الدراسة. وبعض العوائل تفكر في مغادرة بغداد إلى المحافظات ظنا منها ان القصف سيستهدف بغداد بالدرجة الرئيسية. ومع ذلك فان الكثير من سكان بغداد قرروا البقاء خوفا من السطو على منازلهم ولان تركهم بغداد خلال حرب 1991 لم تجنبهم المعاناة التي طالت جميع سكان العراق بلا استثناء

العدد 190 - الجمعة 14 مارس 2003م الموافق 10 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً