العدد 218 - الجمعة 11 أبريل 2003م الموافق 08 صفر 1424هـ

قنابل الأميركيين أرادت قتل الحقيقة

لعبت الصدفة وحدها دورا كي يصبح الصحافي الإنجليزي وليام هوارد راسيل أول مراسل حربي. فقد أوفدته صحيفة (تايمز) في العام 1854 إلى مالطا ليكتب عن استعدادات القوات العسكرية البريطانية لمحاربة الروس، وكانت النتيجة أن راسيل أمضى نحو عامين وهو يكتب يوميا عن الحرب الضروس. وقد أدت الانطباعات الصريحة لهذا الصحافي إلى قيام مناقشات حادة في مجلس العموم البريطاني انتهت بلجوء الحكومة البريطانية إلى فرض رقابة على التقارير المتعلقة بهذه الحرب.

مع الوقت تغيرت التغطية الصحافية للحروب والنزاعات العسكرية، وأراد الأميركيون أن يجري نقل وقائع حربهم ضد العراق إلى بيوت المواطنين الأميركيين بصورة خاصة، والحرص قدر الإمكان على عدم انتشار صور تزعج المسئولين السياسيين والعسكريين في إدارة الرئيس بوش وتكشف قذارة الحرب. والملاحظ أن وسائل الإعلام الأميركية عرضت صور ضحايا مدنيين عراقيين بعد أسبوع على بدء المعارك بينما محطات التلفزة العربية التي كسرت احتكار محطة التلفزة الأميركية المنحازة إلى واشنطن «سي ان ان» عرضت ما لم يرغب به الأميركيون في اليوم التالي لبدء المعارك.

في العام 1854 فطنت الحكومة البريطانية إلى خطر تأثير التغطية الإعلامية على سير الحرب، وأن يجري نقل صور مجمّلة للرأي العام لا تؤثر سلبا على سير الخطط العسكرية ووقف حملات منتقدي الحرب. بعد 150 سنة على مهمة راسيل في مالطا لم يتغير هذا الموقف بل ظل على حاله. الخوف ما زال يلازم السياسيين والعسكريين من أن تسهم التغطية الإعلامية المكثفة للحرب والحديث بحرية مطلقة عن مجرياتها ونشر الصور المروعة للضحايا، في تأليب الرأي العام. خلال الحرب العالمية الثانية درب العهد النازي مجموعة من الجنود على العمل الصحافي وأرسلهم إلى جبهات القتال لإعداد تقارير دعائية تصب في مصلحة نظام هتلر. وكان الكاتب الأميركي الشهير أرنست همنغواي بين أول الصحافيين الذين تحولوا إلى جنود ليكونوا على مقربة من جبهات القتال، ونقل صورا أوضح وأكثر دقة لتصريحات المتحدثين العسكريين.

في حرب الخليج السابقة تفنن الأميركيون في تقديم صور الحرب كلعبة كمبيوتر، وتحكموا بالمعلومات والصور التي كانت تروجها محطة السي ان ان، ولم تظهر الصور المؤلمة للحرب إلا بعد انتهاء المعارك. لكن مع ظهور فضائيات عربية مؤهلة لمنافسة الإعلام الغربي اضطر الأميركيون إلى التفكير باستراتيجية جديدة هي ضم ستمئة صحافي إلى جحافلها لتغطية الحرب، بعد أن تعهد الصحافيون بتنفيذ شروط وزارة الدفاع الأميركية. ويلاحظ أن هؤلاء الصحافيين لا يعلقون بحرية على الحرب كما تخلو تعليقاتهم كليا من انتقاد القوات الغازية إضافة إلى أنه ليس بوسعهم التنقل بحرية بحجة الحرص على أمنهم وحياتهم، ومعنى ذلك أنهم لا يرون أكثر من محيطهم الضيق والمحدود جدا.

في حرب فيتنام استطاع الصحافيون أن يتحركوا بحرية نوعا ما، كما يقول الصحافي الألماني بيتر شول لاتور الذي كان ضمن مجموعة صغيرة من الصحافيين الأوروبيين، وكان الأميركيون ينقلون الصحافيين بعرباتهم العسكرية وطائرات الهليكوبتر إلى ساحات القتال. وهكذا استطاع بعض الصحافيين التقاط صور تاريخية للطفلة الفيتنامية كيم بهاك، وهي تهرع بعد أن أكلت النيران مساحات كبيرة من جسدها النحيل وهزت صورها العالم. ثم تنبه الأميركيون إلى خطأ منح الإعلاميين الحرية المطلقة. وفي حرب الخليج الأولى حرص الأميركيون على عدم الوقوع في أخطاء حرب فيتنام، ولهذا نادرا ما ظهرت صور مروعة لمعاناة المدنيين وبدلا من ذلك راحت الدعاية المركزة تتحدث عن قنابل ذكية وقنابل مزودة بالكاميرا، وتم ترك معاناة الناس جانبا.

يقول مدير مؤسسة الإعلام الأوروبية جو غرويبل إن العسكريين لا يحترمون عادة عمل الصحافيين ويضيف: «كانت رغبة العسكريين الأميركيين أن تكون الحرب عبارة عن برنامج ترفيهي على غرار برنامج (الأخ الأكبر)، وأن يجري نقل صور الحرب في هذا الإطار على ألا يكون فيها مكان للصور المروعة التي تكشف حقيقة عمق المأساة».

ويقول البرلماني الألماني السابق الذي يشغل اليوم وظيفة منسق منظمة الأمن والتعاون في أوروبا لشئون الإعلام، فرايموت دوفه: «يجري إخفاء الحقيقة المأسوية، والملاحظ أنه في الأيام العشرة الأولى خيل لنا أنه لم يسقط ضحايا في صفوف المدنيين. وكل ما حصلنا عليه من صور كان صور دخان كثيف ولوحة رومانسية لبغداد كأنها شجرة عيد الميلاد تضيئها القنابل الذكية.

أنطوني سوفورد، جندي سابق في البحرية الأميركية شارك في حرب الخليج السابقة وأعد كتابا عن وقائعها يتحدث فيه عن العلاقة بين العسكريين والصحافيين، ولهذا فإنه حصل في بلاده على شهرة واسعة لأنه أعطى للرأي العام صورة حقيقية عن الحرب. ذكر في كتابه أن العسكريين طلبوا من الصحافيين عرض صور تبرز الجنود وهو يبتسمون أو يظهرون عضلاتهم ويتحدثون عن عزيمة النصر. ما حظر على الصحافيين عرضه، صور تعبر عن خوف الجنود وعدم ثقتهم بعتادهم العسكري وحماسهم للقتل. بقي كل طرف غريب عن الآخر. لم يسمح للجنود بالتعبير عن آرائهم ولم يتجرأ الصحافيون على توجيه أسئلة ناقدة. ستمئة صحافي تعهدوا بشروط وزارة الدفاع الأميركية في حرب الخليج الثالثة. ارتدوا بزات الجنود المقاتلين نفسها، ووضعوا الخوذات نفسها وأكلوا الطعام نفسه وكانوا على مقربة من الأسلحة وشاركوا الجنود المخاوف نفسها مثلما حصل للصحافي البريطاني جون سيمبسون حين وقع ضمن قافلة لعسكريين أميركيين وأكراد تحت نار التحالف عن طريق الخطأ. يصف رئيس منظمة (مراسلون بلا حدود) ميخائيل راديسكي هذا التطور بأنه يشكل أشد خطرٍ على التغطية الإعلامية للنزاعات العسكرية. وقد اعتبرت المنظمة مقتل صحافيين أجانب في بغداد بواسطة قنبلة وجهتها دبابة أميركية استهدفت الطبقة الـ 15 في فندق فلسطين عملا مستهدفا وجريمة حرب كما جاء في رسالة الاحتجاج التي سلمتها المنظمة إلى السفير الأميركي في برلين دان كوتس. لم يُخفِ راديسكي شكه بأن الأميركيين قصدوا مكاتب محطة التلفزة العربية لأن الأخيرة عرضت الصور التي عملت واشنطن منذ البداية من أجل منع انتشارها. وذكر راديسكي أن الأميركيين استهدفوا مكتب تلفزيون (الجزيرة) في كابول خلال حرب أفغانستان. بصورة عامة يجد راديسكي أن أجهزة الإعلام لم تنقل صورة موضوعية وأمينة للحرب، وأضاف وهو يعبر عن خيبة أمله وغضبه في وقت واحد: «يخيل لنا أننا تابعنا كل شيء، وحصلنا على جميع المعلومات. لكن الحقيقة لا تنجلي في العادة إلا بعد نهاية الحرب»

العدد 218 - الجمعة 11 أبريل 2003م الموافق 08 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً