العدد 223 - الأربعاء 16 أبريل 2003م الموافق 13 صفر 1424هـ

العثور على سلطة تبخرت: حقائق لا يمكن إنكارها

صلاح الدين الجورشي comments [at] alwasatnews.com

.

ما حدث في بغداد لم يحدث في التاريخ بحسب علمنا. يمكن أن يختفي قائد، يمكن أن يختفي فريق حكومي، يمكن أن ينهزم جيش، لكن لم يسبق أن اختفت سلطة بكاملها خلال ساعات قليلة. لم يكن العقلاء في الأمة يتوهمون بأن يخرج النظام العراقي منتصرا في حرب غير متكافئة. لكنهم في المقابل لم يتوقعوا هذه النهاية الغريبة لصراع بدت مؤشراته توحي بنفس أطول، وخاتمة أشرف. لهذا يستمر الكثيرون في البحث عن تفسير مقنع لما حصل، ويتساءلون أين اختفى صدام ورفاقه؟ وأين تبخر جيشه الرئاسي وفدائيوه وفيالقه العسكرية ومليشياته المتعددة وحزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان يمسك برقاب العراقيين لفترة تتجاوز الأربعين عاما ؟. ولأن الأمر بقي غريبا وغير مقنع، لاتزال أوساط عدة تنتظر خاتمة مختلفة، وتفترض أن النظام الذي تبخر «قد يكون بصدد إعداد مفاجآت في مستقبل الأيام».

في انتظار ما ستكشفه الأيام من معطيات قد تساعد على توفير الإجابة عن عشرات الأسئلة المحيرة، التي تكاد تفجر رؤوس ملايين العرب، فإن الواقع الراهن يحيلنا إلى عدة حقائق لا يستطيع أحد أن ينكرها، بما في ذلك أولئك الذين ارتبطوا عضويا بالنظام العراقي، وراهنوا على وعوده واستراتيجياته.

كل نظام دكتاتوري هش

أولى هذه الحقائق، أن النظام الدكتاتوري يبقى هشا مهما بدا قويا ومحميا بأنواع مختلفة من التنظيمات العسكرية والأمنية والسياسية.إنه كالهرم المقلوب، ما أن تزيل الوتد الذي يرتكز عليه حتى ينهار كليا وتتطاير أجزاؤه.والأخطر في الحال العراقية أن صدام حسين لم يتماه فقط مع نظام الحكم، ولكن كان الملتفون حوله يرددون بأن صدام حسين هو العراق والعراق هو صدام حسين.لم يكونوا يشعرون بأي إشكال وهم يرددون ذلك، لأن الحكم الفردي يؤدي إلى حال تداخل قصوى بين الزعيم والدولة والشعب والحق والعدل والدستور والأب والإله.ويترتب عن هذا التوحد الكامل والتماهي المطلق ارتباط آلي بين شخص الحاكم وكل الأجهزة المرتبطة به، مما يفسر أنه بمجرد الإحساس بفقدانه، ترتبك كل الأجزاء، وتتحلل جميع الروابط، وتسقط كل مقومات السلطة ومظاهرها، وتصبح الدولة مهددة بالتفكك في صورة غياب بديل قادر على ملء الفراغ بسرعة.

ولاء الشعب للدكتاتورية ولاء وهمي

أما الحقيقة الثانية فتتمثل في أن الدكتاتوريات تقضي، من دون أن تشعر من خلال ظلمها وبطشها بالناس، على جميع مشاعر الولاء والارتباط العاطفي والسياسي والثقافي والعضوي بينها وبين المجتمع.إنها تنظر إلى مواطنيها باعتبارهم ذرات من الأفراد، تحكمهم بمنطق القوة ورشوة الامتيازات وتهديدهم في قوتهم وحرياتهم وحقوقهم الأساسية وأولادهم. كما تمن عليهم بالخدمات والإنجازات التي تنفق عليها مما تسيطر عليه وتتصرف فيه من ثروات الشعب وما تفرضه من ضرائب. ولهذا تتحول هذه الأنظمة في غالبية الحالات إلى حمل ثقيل على مواطنيها، الذين ما أن تتوافر لهم فرصة التخلص من الجاثمين على رقابهم حتى يلقوا بهم أرضا، ويغيروا ولاءهم بالكامل وينهوا حال الازدواجية والنفاق التي كانوا يعتبرونها الضامن الوحيد للحفاظ على البقاء.لهذا ما قام به عدد واسع من العراقيين للتعبيرعن فرحتهم لسقوط النظام، كان حالا طبيعية لقمع دام سنوات طويلة، جعلت ضحاياه لا يدركون في تلك اللحظة، وربما لفترة يرجى ألا تطول، أن بلدهم احتل، وأن القوة التي أزاحت قامعهم، لم تأت حقا لتحريرهم.

ضعف المعارضة

أما الحقيقة الثالثة فهي أن الدكاتوريات في العالم العربي تحرق معارضيها بوسائل مختلفة. فهي تستعمل كل وسائل البطش والإغراء للقضاء على تنظيمات المعارضة باعتقال أنصارها وتصفية زعمائها، وبذلك تحول دون أن تسمح لها بالنمو في أرضها وبين أبناء شعبها.وقد تلجأ أيضا في أكثر من بلد إلى الارتشاء السياسي والمالي فتقضي على صدقية جانب آخر من معارضيها الذين يتحولون في النهاية إلى جزء من السلطة لا بديلا عنها. وعندما يشعر المعارضون بالعجز الكامل عن التغيير السياسي من داخل البلد، يلجأون عادة إلى الخارج، يستثمرون ظروف الحرية في دول الغرب، وتستهوي بعضا منهم لعبة التأثير على المعادلات الداخلية من خلال ممارسة الضغط الخارجي. وشيئا فشيئا تتضخم الرهانات على هذا النمط من استراتيجيات التغيير، ولا يقع الانتباه إلى الحد الفاصل بين السيادة الوطنية والعمل لحساب دولة أجنبية معادية وطامعة في ثروات الوطن.وفي هذه الحال يظن نظام الحكم أنه الرابح عندما يدفع بمعارضيه إلى الوقوع في شباك العمالة أو الارتهان للخارج.لكنه لا ينتبه أن هذا سلاح ذو حدين، لأنه قد ينقلب على الجميع، ويكون الوطن هو أول الضحايا.وما حدث من خلافات استراتيجية أو زعاماتية وأيديولوجية بين فصائل المعارضة العراقية، جعلها اليوم عاجزة عن استثمار الفراغ الكبير لكسب ثقة مواطنيها وفرض نفسها كبديل للنظام، مما وفر الفرصة للصوص أن يحكموا القبضة على البلاد . وهو أمر حدث بتشجيع مبطن أو مباشر من قبل القوات المحتلة، حتى يفقد الناس الأمن والأمان، وينتهوا إلى الإلحاح على تلك القوات بأن تبسط نفوذها، وتطيل بقاءها حفظا للأموال والأعراض وتوفير الخدمات الأساسية. هذه الحقائق قائمة لا يمكن أن ينكرها إلا جاحد. لكن بقدر التأكيد على أن ما آلت إليه الحال العراقية هو نتاج طبيعي ونهاية شبه حتمية لدكتاتورية طالت، فإن هذا لا يبرر بأي شكل من الأشكال الاحتلال الأميركي الذي استغل ذلك ليسيطر على البلاد وثرواتها.لهذا يطرح السؤال الآتي : هل ستشهد العراق ميلاد حركة مقاومة مستقلة لهذا الاستعمار المباشر؟. المؤشرات حاليا لا تدل على حصول ذلك في وقت قريب، لكن بعد تولي حكومة اميركية شأن العراق، فإن العراقيين سيصطدمون في النهاية بواقع مريع يختلف كليا عما ظنه الكثير منهم بأنه «تحرير للعراق»

العدد 223 - الأربعاء 16 أبريل 2003م الموافق 13 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً